عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِلْهَامِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِتَسْخِيرٍ إِلَهِيٍّ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْجَدْوَى عَلَى النَّاسِ وَالنَّفْعِ لَهُمْ، يُحَسِّنُ اسْتِعَارَةَ فِعْلِ الْإِنْزَالِ إِلَيْهِ، تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ، وَشَارَكَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الْمُلْهَمَاتِ عَظِيمَ النَّفْعِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [الْحَدِيد: ٢٥] أَيْ أَنْزَلْنَا الْإِلْهَامَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالدِّفَاعِ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: ٦] أَيْ: خَلَقَهَا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ بِتَدْبِيرِهِ، وَعَلَّمَكُمُ اسْتِخْدَامَهَا وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِيهَا، وَلَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ مَا أُلْهِمَ إِلَيْهِ الْبَشَرُ مِمَّا هُوَ دُونَ هَذِهِ فِي
الْجَدْوَى، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اللِّبَاسُ الَّذِي نَزَلَ بِهِ آدَمُ هُوَ أَصْلُ اللِّبَاسِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْبَشَرُ.
وَهَذَا تَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّ اللِّبَاسَ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَالْفِطْرَةُ أَوَّلُ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ مِمَّا كَرَّمَ اللَّهُ بِهِ النَّوْعَ مُنْذُ ظُهُورِهِ فِي الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ جعلُوا من قرباتهم نَزْعَ لِبَاسِهِمْ بِأَنْ يَحُجُّوا عُرَاةً كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ [الْأَعْرَاف: ٣٢] فَخَالَفُوا الْفِطْرَةَ، وَقَدْ كَانَ الْأُمَمُ يَحْتَفِلُونَ فِي أَعْيَادِ أَدْيَانِهِمْ بِأَحْسَنِ اللِّبَاسِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَهْلِ مِصْرَ: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: ٥٩] .
وَاللِّبَاسُ اسْمٌ لِمَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ يَسْتُرُ بِهِ جُزْءًا مِنْ جَسَدِهِ، فَالْقَمِيصُ لِبَاسٌ، وَالْإِزَارُ لِبَاسٌ، وَالْعِمَامَةُ لِبَاسٌ، وَيُقَالُ لَبِسَ التَّاجَ وَلَبِسَ الْخَاتَمَ قَالَ تَعَالَى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: ١٢] وَمَصْدَرُ لَبِسَ اللُّبْسُ- بِضَمِّ اللَّامِ-.
وَجُمْلَةُ: يُوارِي سَوْآتِكُمْ صفة (للباسا) وَهُوَ صِنْفُ اللِّبَاسِ اللَّازِمِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ صِفَةُ مَدْحِ اللِّبَاسِ أَيْ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ اللِّبَاسِ لَيْسَ لِمُوَارَاةِ السَّوْآتِ مِثْلَ الْعِمَامَةِ وَالْبُرْدِ وَالْقَبَاءِ وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَهِيَ السَّوْأَةُ، وَأَمَّا سَتْرُ مَا عَدَاهَا مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ثَبَتَ بَعْضُهُ بِالسُّنَّةِ، وَبَعْضُهُ بِالْقِيَاسِ وَالْخَوْضِ فِي تَفَاصِيلِهَا وَعِلَلِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute