للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الِافْتِتَانِ بِفِتْنَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ كَيْدِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْحَذِرِ أَنْ يَرْصُدَ الشَّيْءَ الْمَخُوفَ بِنَظَرِهِ لِيَحْتَرِسَ مِنْهُ إِذَا رَأَى بَوَادِرَهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ النَّاسَ بِأَنَّ الشَّيَاطِينَ تَرَى الْبَشَرَ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَرَوْنَهَا، إِظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ جَانِبِ كَيْدِهِمْ وَجَانِبِ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُم ضَعِيف، فَإِنَّ جَانِبَ كَيْدِهِمْ قَوِيٌّ مُتَمَكِّنٌ وَجَانِبُ حَذَرِ النَّاسِ مِنْهُمْ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَكِيدَ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي.

فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ تَعْلِيمُ حَقِيقَةٍ مِنْ حَقَائِقِ الْأَجْسَامِ الْخَفِيَّةِ عَنِ الْحَوَاسِّ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُجَرَّدَاتِ فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاؤُنَا الْأَرْوَاحَ السُّفْلِيَّةَ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ التَّصَدِّي لِتَعْلِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِلَّا مَا

لَهُ أَثَرٌ فِي التَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَوْعِظَةِ.

وَالضَّمِيرُ الَّذِي اتَّصَلَتْ بِهِ (إِنَّ) عَائِدٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَعُطِفَ: وَقَبِيلُهُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: يَراكُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ. وَذُكِرَ الْقَبِيلُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْصَارًا يَنْصُرُونَهُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيبُ حَالِ عَدَاوَةِ الشَّيَاطِينِ بِمَا يَعْهَدُهُ الْعَرَبُ مِنْ شِدَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ عَدُوَّهُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَأْخُوذِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَتَاهُمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ غَارُّونَ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَذَرِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاهُمْ وَفِي أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ.

ومِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ابْتِدَاءُ مَكَانِ مُبْهَمٍ تَنْتَفِي فِيهِ رُؤْيَةُ الْبَشَرِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لَا تَرَوْنَهُمْ فِيهِ، فَيُفِيدُ: إِنَّهُ يَرَاكُمْ وَقَبِيلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ قَرِيبًا كَانُوا أَوْ بَعِيدًا، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ مَحْجُوبِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْبَشَرِ، فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، فَرُؤْيَةُ ذَوَاتِ الشَّيَاطِينِ مُنْتَفِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُخَوِّلُ اللَّهُ رُؤْيَةَ الشَّيَاطِينِ أَوِ الْجِنِّ مُتَشَكِّلَةً فِي أَشْكَالِ الْجُسْمَانِيَّاتِ،