ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَنَعَى عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمُ الْفَاسِدَةَ، وَأَسْمَعَهُمْ قَوَارِعَ الْقُرْآنِ فَحِينَئِذٍ تَصَدَّوْا لِلِاعْتِذَارِ. وَقَدْ عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ تَشْنِيعُ مَعْذِرَتِهِمْ وَفَسَادُ حُجَّتِهِمْ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى إِنْكَارِ مَا كَانَ مُمَاثِلًا لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ كُلُّ دَلِيلٍ تَوَكَّأَ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرِ فَسَادُهَا وَفُحْشُهَا، وَكُلُّ دَلِيلٍ اسْتَنَدَ إِلَى مَا لَا قِبَلَ لِلْمُسْتَدِلِّ بِعِلْمِهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها دَعْوَى بَاطِلَةٌ إِذْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَمْرُ اللَّهِ بِذَلِكَ بِوَاسِطَةِ مُبَلِّغٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ النُّبُوءَةَ، فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ تَلَقِّي مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فَأَعْرَضَ عَنْ رَدِّ قَوْلِهِمْ: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُرَادُ رَدُّهُ مِنْ جِهَةِ التَّكْذِيبِ فَهُمْ غَيْرُ كَاذِبِينَ فِي قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ تِلْكَ الْفَوَاحِشَ، وَإِنْ كَانَ يُرَادُ رَدُّهُ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لِلْحُجَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْإِنْكَارَ وَالنَّهْيَ ظَاهِرٌ انْتِقَالُهُمَا إِلَى آبَائِهِمْ، إِذْ مَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ يَجُوزُ عَلَى الْمُمَاثِلِ، فَصَارَ رَدُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ دَلِيلِهِمْ بَدِيهِيًّا وَكَانَ أَهَمَّ مِنْهُ رَدُّ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ مَنَاطُ الِاسْتِدْلَالِ، أَعْنِي قَوْلَهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها.
فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ نَقْضٌ لِدَعْوَاهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهَا أَيْ بِتِلْكَ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَتَعْلِيمٌ لَهُمْ، وَإِفَاقَةٌ لَهُمْ مِنْ غُرُورِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِالْكَمَالِ
فَلَا يَأْمُرُ بِمَا هُوَ نَقْصٌ لَمْ يَرْضَهُ الْعُقَلَاءُ وَأَنْكَرُوهُ، فَكَوْنُ الْفِعْلِ فَاحِشَةً كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَهُ الْكَمَالُ الْأَعْلَى، وَمَا كَانَ اعْتِذَارُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ، وَلِذَلِكَ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِالِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ بِقَوْلِهِ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، فَحُذِفَ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ إِذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالُوهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute