بِقِسْطٍ، وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ فَإِنَّ التَّعَرِّيَ تَفْرِيطٌ، وَالْمُبَالَغَةَ فِي وَضْعِ اللِّبَاسِ إِفْرَاطٌ، وَالْعَدْلُ هُوَ اللِّبَاسُ الَّذِي يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ أَذَى الْقَرِّ أَوِ الْحَرِّ، وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ فَتَحْرِيمُ بَعْضِهِ غُلُوٌّ، وَالِاسْتِرْسَالُ فِيهِ نَهَامَةٌ، وَالْوَسَطُ هُوَ الِاعْتِدَالُ، فَقَوْلُهُ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ كَلَامٌ جَامِعٌ لِإِبْطَالِ كُلِّ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْطِ.
ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِأَمْر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ عَنِ اللَّهِ: أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فَجُمْلَةُ: وَأَقِيمُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أَيْ قُلْ لِأُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ. وَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إِبْطَالُ بَعْضٍ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ بِطَرِيقِ أَمْرِهِمْ بِضِدِّ مَا زَعَمُوهُ لِيَحْصُلَ أَمْرُهُمْ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ بِالتَّصْرِيحِ. وَإِبْطَالُ شَيْءٍ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ النَّهْيَ عَنْ
شَيْءٍ وَفَعَلَ ضِدَّهُ يَأْمُرُ بِضِدِّهِ فَيَحْصُلُ الْغَرَضَانِ مِنْ أَمْرِهِ.
وَإِقَامَةُ الْوُجُوهِ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ الْإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي مَوَاضِعِ عِبَادَتِهِ، بِحَالِ الْمُتَهَيِّئِ لِمُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مُهِمٍّ حِينَ يُوَجِّهُ وَجْهَهُ إِلَى صَوْبِهِ، لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةَ، فَذَلِكَ التَّوَجُّهُ الْمَحْضُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ إِقَامَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَجْهَ قَائِمًا، أَيْ غَيْرَ مُتَغَاضٍ وَلَا مُتَوَانٍ فِي التَّوَجُّهِ، وَهُوَ فِي إِطْلَاقِ الْقِيَامِ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا يُقَالُ: قَامَتِ السُّوقُ، وَقَامَتِ الصَّلَاةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣] عِنْدَ قَوْلِهِ: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الرّوم: ٣٠] فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْوُجُوهِ عِنْدَ الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمَعْبُودِ وَمَكَانُ الْعِبَادَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَعْظِيمِهِ وَلَا تَعْظِيمِ مَسَاجِدِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِثْلَ التَّعَرِّي، وَإِشْرَاكُ اللَّهِ بِغَيْرِهِ فِي الْعِبَادَةِ مُنَافٍ لَهَا أَيْضًا، وَهَذَا كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ فَلَا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ»
فَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرِّي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute