مِنْ ذَلِكَ، فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ الْمَنْفِيَّانِ هُمَا مَا يُوجِبُهُ الْعِقَابُ، وَقَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مُطْلَقًا بِمِقْدَارِ قُوَّةِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يُونُس: ٦٢- ٦٤] .
وَقَدْ نُفِيَ الْخَوْفُ نَفْيَ الْجِنْسِ بِلَا النَّافِيَةِ لَهُ، وَجِيءَ بِاسْمِهَا مَرْفُوعًا لِأَنَّ الرَّفْعَ يُسَاوِي الْبِنَاءَ عَلَى الْفَتْحِ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُتَوَهَّمُ فِي نَفْيِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْفَرْدِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ فُتِحَ مِثْلُهُ لَصَحَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةُ وَلَا سَئَامَةُ» فَقَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَبِالْفَتْحِ.
وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُلَازَمَةُ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَنَالُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ عَنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، بِأَنْ يُقَالَ وَلَا حُزْنٌ، إِلَى الْجُمْلَةِ: لِيَتَأَتَّى بِذَلِكَ بِنَاءُ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى ضَمِيرِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُزْنَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَإِنَّ بِنَاءَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، نَحْوَ: مَا أَنَا قُلْتُ
هَذَا، فَإِنَّهُ نَفْيُ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ كَوْنِ الْقَوْلِ وَاقِعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ بَيْتُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» ، (وَهُوَ لِلْمُتَنَبِّي) :
وَمَا أَنَا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ ... وَلَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارًا
فَيُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْزَنُونَ إِفَادَةً بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، لِيَكُونَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْخَبَرِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute