للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِ ادْعُوا، لِأَنَّ التَّذَلُّلَ بَعْضٌ أَحْوَالِ الدُّعَاءِ فَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ:

وَخُفْيَةً مَأْمُورا بِهِ مَقْصُودا بِذَاتِهِ، أَيِ ادْعُوهُ مُخْفِينَ دُعَاءَكُمْ، حَتَّى أَوْهَمَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْإِعْلَانَ بِالدُّعَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ مَثُوبٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ: فإنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَنًا غَيْرَ مَرَّةٍ. وَعَلَى الْمِنْبَرِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّاسِ

وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا»

وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا»

وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ»

الْحَدِيثَ. وَمَا رُوِيَتْ أَدْعِيَتُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ جَهَرَ بِهَا يَسْمَعُهَا مَنْ رَوَاهَا، فَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَضَرُّعاً إِذْنٌ بِالدُّعَاءِ بِالْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ فَإِنَّمَا هُوَ عَنِ الْجَهْرِ الشَّدِيدِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْخُشُوعِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخُفْيَةً- بِضَمِّ الْخَاءِ- وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- وَتَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ أَمْرُ تَكْرِيمٍ للْمُسلمين يتضمّن رضى اللَّهِ عَنْهُمْ، وَلَكِنْ سَلَكَ فِي التَّعْلِيلِ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِإِبْطَالِ ضِدِّهِ، تَنْبِيهًا عَلَى قَصْدِ الْأَمْرَيْنِ وَإِيجَازًا فِي الْكَلَامِ. وَلِكَوْنِ الْجُمْلَةِ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ افْتُتِحَتْ بِ (إِنَّ) الْمُفِيدَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ، بِقَرِينَةِ خُلُوِّ الْمُخَاطَبِينَ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَمِنْ شَأْنِ (إِنَّ) إِذَا جَاءَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تُفِيدَ التَّعْلِيلَ وَالرَّبْطَ، وَتَقُومَ مَقَامَ الْفَاءِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ.

وَإِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى، فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا، إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ مُرَادٌ بِهَا لَازِمُ مَعْنَى الْمَحَبَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ، وَعِنْدِي فِيهِ احْتِمَالٌ، فَقَالُوا: أُرِيدَ لَازِمُ الْمَحَبَّةِ، أَيْ فِي الْمَحْبُوبِ وَالْمُحِبِّ، فَيَلْزَمُهَا اتِّصَافُ الْمَحْبُوبِ بِمَا يُرْضِي الْمُحِبَّ لِتَنْشَأَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا الِاسْتِحْسَانُ، وَيَلْزَمُهَا رِضَى الْمُحِبِّ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَإِيصَالُ النَّفْعِ لَهُ. وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا. فَإِطْلَاقُ الْمَحَبَّةِ وَصْفًا لِلَّهِ مَجَازٌ بِهَذَا اللَّازِمِ الْمُرَكَّبِ.