للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَادَّةِ الِاشْتِقَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.

وَعِنْدِي أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ شَابَهَ فِي حُرُوفِهِ مَادَّةً مُشْتَقَّةً وَدَخَلَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ لُغَةٍ سَابِقَةٍ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، وَقد كَانَ الْعَرَب الْعِرَاقِ فِيهَا السَّبْقُ قَبْلَ انْتِقَالِهِمْ إِلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَقَارُبُ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي

أَكْثَرِ اللُّغَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَكُنْتُ رَأَيْتُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ اسْمَهُ فِي الفارسية سيطان.

و (خلوا) بِمَعْنَى انْفَرَدُوا فَهُوَ فِعْلٌ قَاصِرٌ وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِاللَّامِ وَمِنْ وَمَعَ بِلَا تَضْمِينٍ وَيُعَدَّى بِإِلَى عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى آبَ أَوْ خَلُصَ وَيُعَدَّى بِنَفْسِهِ عَلَى تَضْمِينِ تَجَاوَزَ وَبَاعَدَ وَمِنْهُ مَا شَاعَ مِنْ قَوْلِهِمُ: «افْعَلْ كَذَا وَخَلَاكَ ذَمٌّ» (١) أَيْ إِنَّ تَبِعَةَ الْأَمْرِ أَوْ ضُرَّهُ لَا تَعُودُ عَلَيْكَ.

وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بإلى اليشير إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ كَانَتْ فِي مَوَاضِعَ هِيَ مَآبَهُمْ وَمَرْجِعَهُمْ وَأَنَّ لِقَاءَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ صُدْفَةٌ وَلَمَحَاتٌ قَلِيلَةٌ، أَفَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ: لَقُوا وخَلَوْا. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ وَصَرَاحَتِهَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ حُكِيَ خِطَابُهُمْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِمَا يُحَقِّقُ الْخَبَرَ مِنْ تَأْكِيدٍ، وَخِطَابُهُمْ مُوهِمٌ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ حَقَّقُوا لَهُمْ بَقَاءَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّأْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعَ أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَشُكُّونَ فِي إِيمَانِ الْمُنَافِقِينَ، وَقَوْمُهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي بَقَائِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، فَجَاءَتْ حِكَايَةُ كَلَامِهِمُ الْمُوَافِقَةُ لِمَدْلُولَاتِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِمُرَاعَاةِ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِعِنَايَةِ الْبَلِيغِ مِنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَخَلَّوْ خِطَابَهُمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُفِيدُ تَأْكِيدَ الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَعْرِضُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعْرِضِ مَنْ يَتَطَرَّقُ سَاحَتَهُ الشَّكُّ فِي صِدْقِهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَيْقَظُوهُمْ إِلَى الشَّكِّ وَذَلِكَ مِنْ إِتْقَانِ نِفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ أَخْلِيَاءَ الذِّهْنِ مِنَ الشَّكِّ فِي الْمُنَافِقِينَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِمْ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ تَجْرِيدُ الْخَبَرِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ بِالتَّأْكِيدِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَا مِنْ إِبْدَاعِهِمْ فِي النِّفَاقِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُوجِبُ شَكَّ كُبَرَائِهِمْ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ وَتَطْرُقُ بِهِ التُّهْمَةُ أَبْوَابَ قُلُوبِهِمُ


(١) أول من قَالَه قصير بن سعد اللَّخْمِيّ لعَمْرو بن عدي ملك اللخميين من عرب الْعرَاق حِين حرض قصير عمرا على الْأَخْذ بثأر خَاله جذيمة بن مَالك الأبرش ملك اللخميين الَّذِي قتلته الزباء العمليقية ملكة تدمر إِذْ خدعته وجلبته إِلَى بَلَدهَا وقتلته غيلَة فَملك اللخميون ابْن أُخْته عَمْرو بن عدي وَكَانَ قصير وزيرا لجذيمة وَلابْن أُخْته فَلَمَّا استصعب عَمْرو الْأَخْذ بالثأر قَالَ لَهُ قصير «اطلب الْأَمر وخلاك ذمّ» أَي إِن نجحت فَذَاك، وَإِلَّا فَلَا لوم عَلَيْك.