وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْعَمَلِ مِقْدَارَ أَمْثَالِهِ فِي نَوْعِهِ، أَيِ الْمُسْرِفُونَ فِي الْبَاطِلِ وَالْجُرْمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦] وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤١] .
وَوَصَفَهُمْ بِالْإِسْرَافِ بِطَرِيقِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَمَكَّنَ مِنْهُمُ الْإِسْرَافُ فِي الشَّهَوَاتِ فَلِذَلِكَ اشْتَهَوْا شَهْوَةً غَرِيبَةً لَمَّا سَئِمُوا الشَّهَوَاتِ الْمُعْتَادَةَ.
وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ الِاسْتِرْسَالِ فِي الشَّهَوَاتِ حَتَّى يُصْبِحَ الْمَرْءُ لَا يَشْفِي شَهْوَتَهُ شَيْءٌ، وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ عَنْهُمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ [الشُّعَرَاء: ١٦٦] .
وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ هَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ فَاحِشَةً وَإِسْرَافًا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ: مِنْهَا اسْتِعْمَالُ الشَّهْوَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ الْمَغْرُوزَةِ فِي غَيْرِ مَا غُرِزَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِي الْإِنْسَانِ الشَّهْوَةَ الْحَيَوَانِيَّةَ لِإِرَادَةِ بَقَاءِ النَّوْعِ بِقَانُونِ التَّنَاسُلِ، حَتَّى يَكُونَ الدّاعي إِلَيْهِ قهري يَنْسَاقُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ، فَقَضَاءُ تِلْكَ الشَّهْوَةِ فِي غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِأَجْلِهِ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْفِطْرَةِ وَعَلَى النَّوْعِ، وَلِأَنَّهُ يُغَيِّرُ خُصُوصِيَّةَ الرُّجْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ إِذْ يَصِيرُ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي وَضَعَهُ اللَّهُ فِيهَا بِخِلْقَتِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ امْتِهَانًا مَحْضًا لِلْمَفْعُولِ بِهِ إِذْ يُجْعَلُ آلَةً لِقَضَاءِ شَهْوَةِ غَيْرِهِ عَلَى خِلَافِ مَا وَضَعَ اللَّهُ فِي نِظَامِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مِنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ مَعًا، وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى قَطْعِ النَّسْلِ أَوْ تَقْلِيلِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَجْلِبُ أَضْرَارًا لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِ مَحَلَّيْنِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَا لَهُ.
وَحَدَثَتْ هَذِهِ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ رَجُلٍ يُسَمَّى الْفُجَاءَةَ،
كَتَبَ فِيهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَإِذْ لَمْ يُحْفَظْ عَن النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ جَمَعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُ فَأَحْرَقَهُ
، وَكَذَلِكَ قَضَى ابْنُ الزُّبَيْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute