للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ رِسالاتِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي نَظِيرِهَا مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ.

وَنِدَاؤُهُ قَوْمَهُ نِدَاء تحسر وتبرئ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حِينَ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَادَاهُمْ بِأَسْمَاءِ صَنَادِيدِهِمْ ثُمَّ

قَالَ: «لَقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا»

وَجَاءَ بِالِاسْتِفْهَامِ

الْإِنْكَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ مُخَاطِبًا نَفْسَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ، إِذْ خَطَرَ لَهُ خَاطِرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يُؤْسَفَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمُ اخْتَارُوا ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ تَحْذِيرِهِمْ مَا لَوْ أَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ لَأَقْلَعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ أَسَفَهُ وَنَدَامَتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦] وَقَوْلِهِ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨] .

فَالْفَاءُ فِي فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ إِلَخْ ... فَرَّعَ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْلَغَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، فَقَدِ اسْتَحَقُّوا غَضَبَ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَيَرَى اسْتِحْقَاقَهُمُ الْعِقَابَ فَكَيْفَ يَحْزَنُ عَلَيْهِمْ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ.

وَالْأَسَى: شِدَّةُ الْحُزْنِ، وَفعله كرضي، و «آسى» مُضَارِعٌ مُفْتَتَحٌ بِهَمْزَةِ التَّكَلُّمِ، فَاجْتَمَعَ هَمْزَتَانِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْمَقْصُودُ نَهْيُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْأَسَى عَلَى قَوْمِهِمُ الْهَالِكِينَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ فِي نُفُوسِهِمْ حُزْنٌ عَلَى هَلْكَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ.

وَقَوْلُهُ: عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ: لِيَتَأَتَّى وَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ زِيَادَةً فِي تَعْزِيَةِ نَفْسِهِ وَتَرْكِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ.

وَقَدْ نَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا مِمَّا حَلَّ بِقَوْمِهِ بِأَنْ فَارِقَ دِيَارَ الْعَذَابِ، قِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مَعَ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ وَاسْتَقَرُّوا بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفُّوا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ سَكَنُوا مَحَلَّةً خَاصَّةً بِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ عَنْهَا الْعَذَابَ، فَإِنَّ بَقِيَّةَ مَدْيَنَ لَمْ يَزَالُوا بِأَرْضِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَتِ التَّوْرَاةُ أَنَّ شُعَيْبًا كَانَ بِأَرْضِ قَوْمِهِ حِينَمَا مَرَّتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي خُرُوجِهِمْ من مصر.