الذِّهْنِ بِحَيْثُ صَارَتْ كَالْمُشَاهَدِ لِلسَّامِعِ، فَكَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا إِشَارَةَ عِبْرَةٍ بِحَالِهَا، وَذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِاسْمِهَا لِمَنْ لَا يَجْهَلُ الْخَبَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: ٣٥] أَيْ هَذَا الَّذِي تُشَاهِدُونَهُ تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ كَنْزُكُمْ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَنْزُهُمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ كَنْزُهُمْ إِظْهَارُ خَطَأِ فِعْلِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرَى بَيَانًا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ: نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها إِمَّا حَالٌ مِنَ الْقُرى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْحَالِ الِامْتِنَانُ بِذِكْرِ قَصَصِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى نبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ مَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ عِلْمُهُ، وَالْوَعْدُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: نَقُصُّ مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُعْرِضِينَ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِأَخْبَارِهَا.
وَإِمَّا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَحْمِلِ قَوْلِهِ: الْقُرى.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ لِأَنَّ لَهَا أَنْبَاءً غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا مِمَّا ذُكِرَ بَعْضُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَطُوِيَ ذِكْرُ بَعْضِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي التَّبْلِيغِ.
وَالْأَنْبَاءُ: الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٤] .
وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى وَضَمِيرِ أَنْبَائِهَا: أَهْلُهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: رُسُلُهُمْ.
وَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: تِلْكَ الْقُرى لِمُنَاسَبَةِ مَا فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ قَصْدِ التَّنْظِيرِ بِحَالِ المكذبين بِمُحَمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجَمْعُ «الْبَيِّنَاتِ» يُشِيرُ إِلَى تَكَرُّرِ الْبَيِّنَاتِ مَعَ كُلِّ رَسُولٍ، وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ
عَلَى الصِّدْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٧٣] .
(وَالْفَاءُ) فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِتَرْتِيبِ الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ عَنِ الْإِخْبَارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْإِيمَان.
وَصِيغَة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا تُفِيدُ مُبَالَغَةَ النَّفْيِ بِلَامِ الْجُحُودِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ كَانَ مُنَافِيًا لِحَالِهِمْ مِنَ التَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ دَلَالَةِ لَامِ الْجُحُودِ