قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩] وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُطَّرِدٌ.
وَالْأَمْرُ حَقِيقَتُهُ طَلَبُ الْفِعْلِ، فَمَعْنَى فَماذا تَأْمُرُونَ مَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ نَفْعَلَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ الصَّادِرِ مِنَ الْعَلِيِّ إِلَى مَنْ دُونَهُ فَإِذَا الْتُزِمَ هَذَا كَانَ إِطْلَاقُهُ هُنَا عَلَى وَجْهِ التَّلَطُّفِ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الطَّلَبُ عَلَى وَجْهِ الْإِفْتَاءِ وَالِاشْتِوَارِ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ لَا يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ
فِرْعَوْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، كَانَ مُرَادًا مِنَ الْأَمْرِ الطَّلَبُ الَّذِي يَجِبُ امْتِثَالُهُ كَمَا قَالَ مَلَأُ بِلْقِيسَ:
فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النَّمْل: ٣٣] .
وَالسَّاحِرُ فَاعِلُ السِّحْرِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السِّحْرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] .
وَجُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ جَوَابُ الْقَوْم المستشارين، فتجر يَدهَا مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِجَرَيَانِهَا فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ: فَأَجَابَ بَعْضُ الْمَلَأِ بِإِبْدَاءِ رَأْيٍ لِفِرْعَوْنَ فِيمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: قالُوا أَرْجِهْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ وَهُوَ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ إِذَا كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ.
وَفِعْلُ أَرْجِهْ أَمْرٌ مِنَ الْإِرْجَاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَرْجِهْ- بِجِيمٍ ثُمَّ هَاءٍ- وَأَصْلُهُ (أَرْجِئْهُ) بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْجِيمِ فَسُهِّلَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا، فَصَارَتْ يَاءً سَاكِنَةً، وَعُومِلَتْ مُعَامَلَةَ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِالْهَمْزِ سَاكِنًا عَلَى الْأَصْلِ- وَلَهُمْ فِي حَرَكَاتِ هَاءِ الْغَيْبَةِ وَإِشْبَاعِهَا وُجُوهٌ مُقَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ.
وَالْمَعْنَى: أَخِّرْ الْمُجَادَلَةَ مَعَ مُوسَى إِلَى إِحْضَارِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ يُدَافِعُونَ سِحْرَهُ، وَحَكَى الْقُرْآنُ ذِكْرَ الْأَخِ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ طُوِيَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ابْتِدَاءً.
وَعُدِّيَ فعل الْإِرْسَال (بفي) دُونَ (إِلَى) لِأَنَّ الْفِعْلَ هُنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُرْسَلُونَ خَاصَّةً. وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ. إِذِ الْمَعْنَى: وَأَرْسِلْ حَاشِرِينَ فِي الْمَدَائِنِ يَأْتُوكَ بِالسَّحَرَةِ، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ لِلْبَحْثِ وَالْجَلْبِ. لَا لِلْإِبْلَاغِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute