وَالْعَرَبُ يَدْعُونَ لِلْمُسَافِرِ بِقَوْلِهِمْ «عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ» ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّطَيُّرِ فِي مَعْنَى التَّشَاؤُمِ خَاصَّةً، يُقَالُ الطِّيَرَةُ أَيْضًا، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ
«لَا طِيَرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»
أَيْ: الشُّؤْمُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يَتَشَاءَمُ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ فِي الدُّنْيَا لِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ لَفْظُ الطِّيَرَةِ عَلَى التَّشَاؤُمِ لِأَنَّ لِلْأَثَرِ الْحَاصِلِ مِنْ دَلَالَةِ الطَّيَرَانِ عَلَى الشُّؤْمِ دَلَالَةً أَشُدَّ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّ تَوَقُّعَ الضُّرِّ أَدْخَلُ فِي النُّفُوسِ مِنْ رَجَاءِ النَّفْعِ. وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَة أَنهم يَتَشَاءَمُونَ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَاسْتُعْمِلَ التَّطَيُّرَ فِي التَّشَاؤُمِ بِدُونِ دَلَالَةٍ مِنَ الطَّيْرِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَزْجُرُ الطَّيْرَ فِيمَا عَلِمْنَا مِنْ أَحْوَالِ تَارِيخِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى فِيهِمْ كَانَتْ سَبَبَ مَصَائِبَ حَلَّتْ بِهِمْ، فَعُبِّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّطَيُّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ الْعَرَبِيِّ.
وَالتَّشَاؤُمُ: هُوَ عد الشَّيْء مشؤوما، أَيْ: يَكُونُ وُجُودُهُ. سَبَبًا فِي وُجُودِ مَا يُحْزِنُ وَيَضُرُّ، فَمَعْنَى يَطَّيَّرُوا بِمُوسى يَحْسَبُونَ حُلُولَ ذَلِكَ بِهِمْ مُسَبَّبًا عَنْ وُجُودِ مُوسَى وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِضَلَالِ دِينِهِمْ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِذَا حَافَظُوا عَلَى اتِّبَاعِهِ كَانُوا فِي سَعَادَةِ عَيْشٍ، فَحَسِبُوا وُجُودَ مَنْ يُخَالِفُ دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ سَبَبًا فِي حُلُولِ الْمَصَائِبِ وَالْإِضْرَارِ بِهِمْ فَتَشَاءَمُوا بِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْمَصَائِبِ هُوَ كُفْرُهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ، لِأَنَّ حُلُولَ الْمَصَائِبِ بِهِمْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَبَّبًا عَنْ أَسْبَابٍ فِيهِمْ لَا فِي غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا مِنَ الْعَمَايَةِ فِي الضَّلَالَةِ فَيَبْقَوْنَ مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقَيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ التَّطَيُّرُ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نِسْبَةِ الْمُسَبَّبَاتِ لِغَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَذَلِكَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الَّذِينَ وَضَعُوا لَهُمْ دِيَانَةَ الشِّرْكِ وَأَوْهَامَهَا.
فِي الْحَدِيثِ «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ»
(١) وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهَا: مِنْ بَقَايَا دِينِ الشِّرْكِ، وَيَقَعُ بَعْدَ فِعْلِ التَّطَيُّرِ بَاءٌ، وَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ تَدْخُلُ عَلَى مُوجِبِ التَّطَيُّرِ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: تَطَيَّرَ مِنْ كَذَا.
وَعَطْفُ وَمَنْ مَعَهُ، أَيْ: مَنْ آمَنُوا بِهِ، لِأَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يَعُدُّونَ مُوجِبَ شُؤْمِ مُوسَى هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يُرْضِي آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَلَوْلَا دِينُهُ لم يكن مشؤوما كَمَا قَالَ ثَمُودُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: ٦٢] .
(١) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute