لَوَازِمُ عُرْفِيَّةٌ لَهَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَدَبِ فَصَارَتْ مِنْ رَوَادِفِ أَحْوَالِهَا وَكَانَ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَمْثَالِ رَمْزًا إِلَى اعْتِبَارِ الْحَالَاتِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ امْتَنَعَ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَلْفَاظِهَا الْوَارِدَةِ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا غُيِّرَتْ لَمْ تَبْقَ عَلَى أَلْفَاظِهَا الْمَحْفُوظَةِ الْمَعْهُودَةِ فَيَزُولُ اقْتِرَانُهَا فِي الْأَذْهَانِ بِصُوَرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي قِيلَتْ فِيهَا فَلَمْ يَعُدْ ذَكَرُهَا رَمْزًا لِلْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِهَا لَا مَحَالَةَ وَفِي هَذَا مَا يُغْنِي عَنْ تَطَلُّبِ الْوَجْهِ فِي احْتِرَاسِ الْعَرَبِ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَمْثَال حَتَّى تسلموا مِنَ الْحَيْرَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ جَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سَبَبَ مَنْعِ الْأَمْثَالِ مِنَ التَّغْيِيرِ مَا فِيهَا مِنَ الْغَرَابَةِ فَقَالَ: «وَلَمْ يَضْرِبُوا مَثَلًا وَلَا رَأَوْهُ أَهْلًا لِلتَّسْيِيرِ، وَلَا جَدِيرًا بِالتَّدَاوُلِ إِلَّا قَوْلًا فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَمِنْ ثَمَّ حُوفِظَ عَلَيْهِ وَحُمِيَ مِنَ التَّغْيِيرِ» فَتَرَدَّدَ شُرَّاحُهُ فِي مُرَادِهِ مِنَ الْغَرَابَةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الْغَرَابَةُ غُمُوضُ الْكَلَامِ وَنُدْرَتُهُ وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَأَنْ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ التَّنَاقُضِ وَمَا هُوَ بِتَنَاقُضٍ نَحْوُ قَوْلِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ: رُبَّ رَمْيَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامٍ، أَيْ رُبَّ رَمْيَةٍ مُصِيبَةٍ مِنْ غَيْرِ رَامٍ أَيْ عَارِفٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [الْبَقَرَة: ١٧٩] إِذْ جَعَلَ الْقَتْلَ حَيَاةً. وَأَمَّا الثَّانِي بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ أَلْفَاظٌ غَرِيبَةٌ لَا تَسْتَعْمِلُهَا الْعَامَّةُ نَحْوُ قَوْلِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ: «أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ» (١) أَوْ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ نَحْوُ رَمْيَةٍ مِنْ
غَيْرِ رَامٍ. أَوْ فِيهِ مُشَاكَلَةٌ نَحْوُ: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» . أَرَادَ كَمَا تَفْعَلُ تُجَازَى. وَفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْغَرَابَةَ بِالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ حَتَّى صَارَتْ عَجِيبَةً وَعِنْدِي أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِالْغَرَابَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا بَدِيعًا خَاصِّيًّا إِذِ الْغَرِيبُ مُقَابِلُ الْمَأْلُوفِ وَالْغَرَابَةُ عَدَمُ الْإِلْفِ يُرِيدُ عَدَمَ الْإِلْفِ بِهِ فِي رِفْعَةِ الشَّأْنِ. وَأَمَّا صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فَجَعَلَ مَنْعَهَا مِنَ التَّغْيِيرِ لِوُرُودِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ فَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ التَّشْبِيهَ التَّمْثِيلِيَّ مَتَى شَاعَ وَاشْتَهَرَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ صَارَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمَثَلُ لَا غَيْرَ اهـ. وَإِلَى طَرِيقَته مَال التفتازانيّ وَالسَّيِّدُ. وَقَدْ عَلِمْتَ سِرَّهَا وَشَرْحَهَا فِيمَا بَيَّنَّاهُ. وَلِوُرُودِ الْأَمْثَالِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ
(١) الجذيل والعذيق- بِوَزْن التصغير- فالجذيل تَصْغِير جذل وَهُوَ أصل الشَّجَرَة. والمحكك بِصِيغَة
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute