بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِفَاعِلِهَا وَلِغَيْرِهِ، فَإِنْ عَادَتْ بِالصَّلَاحِ عَلَيْهِ وَبِضِدِّهِ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ صَلَاحًا، وَلَا تلبث أَن تؤول فَسَادًا عَلَى مَنْ لَاحَتْ عِنْدَهُ صَلَاحًا، ثُمَّ إِذَا تَرَدَّدَ فِعْلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ خَيْرًا مِنْ جِهَةٍ وَشَرًّا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَجَبَ اعْتِبَارُ أَقْوَى حَالَتَيْهِ فَاعْتُبِرَ بِهَا إِنْ تَعَذَّرَ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَوْفَرُ صَلَاحًا، وَإِنِ اسْتَوَى جِهَتَاهُ أُلْغِيَ إِنْ أَمْكَنَ إِلْغَاؤُهُ وَإِلَّا تَخَيَّرَ، وَهَذَا أَمْرٌ لِهَارُونَ جَامِعٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عَمَلُهُ مِنْ أَعْمَالِهِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْفَسَادِ بِأَبْلَغِ صِيغَةٍ لِأَنَّهَا جَامِعَةٌ بَيْنَ نَهْيٍ- وَالنَّهْيُ عَنْ فِعْلٍ تَنْصَرِفُ صِيغَتُهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ إِلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ- وَبَيْنَ تَعْلِيقِ النَّهْيِ
بِاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُفْسِدِينَ.
وَالْإِتْبَاعُ أَصْلُهُ الْمَشْيُ عَلَى حِلْفِ مَاشٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ الْمُفْسِدِ، فَإِنَّ الطَّرِيقَ مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْفَسَادِ وَالْمُفْسِدُ مَنْ كَانَ الْفَسَادُ صِفَتَهُ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِسُلُوكِ طَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ كَانَ تَحْذِيرًا مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَرْوَحُ مِنْهُ مَآلٌ إِلَى فَسَادٍ، لِأَنَّ الْمُفْسِدِينَ قَدْ يَعْمَلُونَ عَمَلًا لَا فَسَادَ فِيهِ، فَنُهِيَ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي عَمَلِ مَنْ عُرِفَ بِالْفَسَادِ، لِأَنَّ صُدُورَهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالْفَسَادِ، كَافٍ فِي تَوَقُّعِ إِفْضَائِهِ إِلَى فَسَادٍ. فَفِي هَذَا النَّهْيِ سَدُّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ، وَسَدُّ ذَرَائِعِ الْفَسَادِ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عُنِيَ بِهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَرَّرَهَا فِي كِتَابِهِ وَاشْتُهِرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي أُصُولِ مَذْهَبِهِ.
فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ جَامِعًا لِلنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْفَسَادِ وَهُوَ الْعَمَلُ الْمَعْرُوفُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْمُفْسِدِ، وَعَمَلُ الْمُفْسِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا اعْتَادَهُ، وَتَجَنُّبُ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْمُفْسِدِ وَمُخَالَطَتِهِ.
وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُوسَى، أَوْ أَعْلَمَهُ، مَا يَقْتَضِي أَنَّ فِي رَعِيَّةِ هَارُونَ مُفْسِدِينَ، وَأَنَّهُ يُوشِكُ إِنْ سَلَكُوا سَبِيلَ الْفَسَادِ أَنْ يُسَايِرَهُمْ عَلَيْهِ لِمَا يَعْلَمُ فِي نَفْسِ هَارُونَ مِنَ اللِّينِ فِي سياسته، وَالِاحْتِيَاط مِنْ حُدُوثِ الْعِصْيَانِ فِي قَوْمِهِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الْأَعْرَاف: ١٥٠] وَقَوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
[طه: ٩٤] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute