إِحَاطَةِ الْإِدْرَاكِ بِذَاتِ اللَّهِ وَاسْتِحَالَةِ التَّحَيُّزِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَاطِعُونَ بِأَنَّهَا رُؤْيَةٌ لَا تُنَافِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا تَبَجَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» فَذَلِكَ مِنْ عُدْوَانِ تَعَصُّبِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ عَلَى عَادَتِهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِعُلَمَاءِ طَرِيقَتِنَا التَّنَازُلُ لِمُهَاجَاتِهِ بِمِثْلِ مَا هَاجَاهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فَأَوْجَبَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ مُوسَى رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ سِيَاقُ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ السُّؤَالَ الَّذِي سَأَلَهُ بنوا إِسْرَائِيلَ الْمَحْكِيَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٥] بِقَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وَمَا تَمَحَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ السُّؤَالُ تَكَلُّفٌ لَا دَاعِيَ لَهُ.
وَمَفْعُولُ أَرِنِي مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْكَ.
وَفُصِلَ قَوْلُهُ: قالَ لَنْ تَرانِي لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ.
ولَنْ يسْتَعْمل لتأبيد النَّفْيِ وَلِتَأْكِيدِ النَّفْيِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْأَبَدِ، فَنَفَتْ (لَنْ) رُؤْيَةَ مُوسَى رَبَّهُ نَفْيًا لَا طَمَعَ بَعْدَهُ لِلسَّائِلِ فِي الْإِلْحَاحِ وَالْمُرَاجَعَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ طِلْبَتَهُ مُتَعَذَّرَةُ الْحُصُولِ، فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ عَلَى اسْتِمْرَارِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لكِنِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمُخَاطَبِ الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ بِدُونِ تَعْلِيلٍ وَلَا إِقْنَاعٍ، أَوْ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لِغَضَبٍ عَلَى السَّائِلِ وَمَنْقَصَةٍ فِيهِ، فَلِذَلِكَ يَعْلَمُ مِنْ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ بَعْضَ مَا يَتَوَهَّمُهُ سَيُرْفَعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ هَلْ يَثْبُتُ فِي مَكَانِهِ، وَهَذَا يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْجَبَلَ سَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِ الْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ، وَأَنَّ قُوَّةَ الْجَبَلِ لَا تَسْتَقِرُّ عِنْدَ ذَلِكَ التَّوَجُّهِ الْعَظِيمِ، فَيَعْلَمُ مُوسَى أَنَّهُ أَحْرَى
بِتَضَاؤُلِ قُوَاهُ الْفَانِيَةِ لَوْ تَجَلَّى لَهُ شَيْءٌ مِنْ سُبُحَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعُلِّقَ الشَّرْطُ بِحَرْفِ (إِنْ) لِأَنَّ الْغَالِبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي مَقَامِ نُدْرَةِ وُقُوعِ الشَّرْطِ أَوِ التَّعْرِيضِ بِتَعَذُّرِهِ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ فِي مَكَانِهِ مَعْلُومًا لِلَّهِ انْتِفَاؤُهُ، صَحَّ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ الْمُرَادِ تَعَذُّرُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلِيلِ الِانْتِفَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ حُجَّةٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ تَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، خِلَافًا لِمَا اعْتَادَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute