للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَفُصِلَتْ جُمْلَةُ: قالَ يَا مُوسى لِوُقُوعِ الْقَوْلِ فِي طَرِيقِ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَاوَبَةِ، وَالنِّدَاءُ لِلتَّأْنِيسِ وَإِزَالَةِ الرَّوْعِ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ إِذْ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْإِنْكَارِ.

وَالِاصْطِفَاءُ افْتِعَالُ مُبَالَغَةٍ فِي الْإِصْفَاءِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصَّفْوِ، وَهُوَ الْخُلُوصُ مِمَّا يُكَدِّرُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٣] وَضُمِّنَ اصْطَفَيْتُكَ مَعْنَى الْإِيثَارِ وَالتَّفْضِيلِ فَعُدِّيَ بِعَلَى.

وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: جَمِيعُ النَّاسِ، أَيِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ، فَالِاسْتِغْرَاقُ فِي النَّاسِ عُرْفِيُّ أَيْ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ لِأَنَّهُ رَسُولٌ، وَلِتَفْضِيلِهِ بِمَزِيَّةِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ مُوسَى أَفْضَلُ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ مَضَوْا يَوْمَئِذٍ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ: فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ، لِأَنَّ مُوسَى أُرْسِلَ بِشَرِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَلَّمَهُ اللَّهُ، وَهَارُونَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ مُعَاوِنًا لِمُوسَى وَلَمْ يُكَلِّمْهُ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: بِرِسَالَتِي وَبِكَلَامِي وَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْضِيلِ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ لِدَلِيلٍ صَرِيحٍ، أَوْ عَلَى جَعْلِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ شُغُلًا لِلنَّاسِ فِي نَوَادِيهِمْ بِدُونِ مُقْتَضٍ مُعْتَبَرٍ لِلْخَوْضِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا امْتِنَانٌ مِنَ اللَّهِ وَتَعْرِيفٌ.

ثُمَّ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَالْأَوَّلُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْإِرْسَالِ وَالتَّكْلِيمِ. وَالثَّانِي تَفْرِيعٌ عَلَى الامتنان، وَمَا صدق مَا آتَيْتُكَ قِيلَ هُوَ الشَّرِيعَةُ وَالرِّسَالَةُ، فَالْإِيتَاءُ مُجَازٌ أُطْلِقَ عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ، وَالْأَخْذُ مَجَازٌ فِي التَّلَقِّي وَالْحِفْظِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مَا آتَيْتُكَ إِعْطَاءَ الْأَلْوَاحِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ [الْأَعْرَاف: ١٤٥] وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ، فَالْإِيتَاءُ حَقِيقَةٌ، وَالْأَخْذَ كَذَلِكَ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْكَلَامِ مَعَ قَوْلِهِ: فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَاف: ١٤٥] وَيَحْصُلُ بِهِ أَخْذُ الرِّسَالَةِ وَالْكَلَامِ وَزِيَادَةٌ.

وَالْإِخْبَارُ عَنْ كُنْ بِقَوْلِهِ: مِنَ الشَّاكِرِينَ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ كُنْ شَاكِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٦] .

وَقَرَأَ نَافِعٌ: وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ: بِرِسَالَتِي، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ بِرِسالاتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِتَعَدُّدِ التَّكَالِيفِ وَالْإِرْشَادِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا.