وذَهَبَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ أَبْلَغُ مِنْ أَذْهَبَ الْمُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ وَهَاتِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْدِيَةِ بِالْبَاءِ نَشَأَتْ مِنْ أَصْلِ الْوَضْعِ لِأَنَّ أَصْلَ ذَهَبَ بِهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمَا ذَهَبَا مُتَلَازِمَيْنِ فَهُوَ أَشَدُّ فِي تَحْقِيقِ ذَهَابِ الْمُصَاحِبِ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يُوسُف:
١٥] وَأَذْهَبَهُ جَعَلَهُ ذَاهِبًا بِأَمْرِهِ أَوْ إِرْسَالِهِ فَلَمَّا كَانَ الَّذِي يُرِيدُ إِذْهَابَ شَخْصٍ إِذْهَابًا لَا شَكَّ فِيهِ يَتَوَلَّى حِرَاسَةَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُوقِنَ بِحُصُولِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ صَارَ ذَهَبَ بِهِ مُفِيدًا مَعْنَى أَذْهَبَهُ، ثُمَّ تُنُوسِيَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَقَالُوا ذَهَبَ بِهِ وَنَحْوَهُ وَلَوْ لَمْ يُصَاحِبْهُ فِي ذَهَابِهِ كَقَوْلِهِ: يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] وَقَوْلِهِ: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يُوسُف:
١٠٠] ثُمَّ جُعْلِتِ الْهَمْزَةُ لِمُجَرَّدِ التَّعْدِيَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَقُولُونَ: ذَهَبَ الْقِمَارُ بِمَالِ فُلَانٍ وَلَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ ذَهَبَ مَعَهُ، وَلَكِنَّهُمْ تَحَفَّظُوا أَلَّا يَسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ إِلَّا فِي مَقَامِ تَأْكِيدِ الْإِذْهَابِ فَبَقِيَتِ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ فِي قَوْلِهِ وَمَا حَوْلَهُ مُرَاعَاةً لِلْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَاخْتِيَارُ لَفْظِ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ دُونَ الضَّوْءِ وَدُونَ النَّارِ لِأَنَّ لَفْظَ النُّورِ أَنْسَبُ لِأَنَّ الَّذِي يُشْبِهُ النَّارَ مِنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ هُوَ مَظَاهِرُ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُظْهِرُونَهَا وَقَدْ شَاعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالنُّورِ فِي الْقُرْآنِ فَصَارَ اخْتِيَارُ لَفْظِ النُّورِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ تَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالْحَالِ الْمُشَبَّهَةِ، وَعَبَّرَ عَمَّا يُقَابِلُهُ فِي الْحَالِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِلَفْظٍ يَصْلُحُ لَهُمَا أَوْ هُوَ بِالْمُشَبَّهِ أَنْسَبُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ فِي وَجْهِ جَمْعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: بِنُورِهِمْ.
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَضَمَّنُ تَقْرِيرًا لِمَضْمُونِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لِأَنَّ مَنْ ذَهَبَ نُورُهُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، وَالْقَصْدُ مِنْهُ زِيَادَةُ إِيضَاحِ الْحَالَةِ الَّتِي صَارُوا إِلَيْهَا فَإِنَّ لِلدَّلَالَةِ الصَّرِيحَةِ مِنَ الِارْتِسَامِ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ مَا لَيْسَ لِلدَّلَالَةِ الضِّمْنِيَّةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَوْقَدُوا نَارًا فَانْطَفَأَتِ انْعَدَمَتِ الْفَائِدَةُ وَخَابَتِ الْمَسَاعِي وَلَكِنْ قَدْ يَذْهَلُ السَّامِعُ عَمَّا صَارُوا إِلَيْهِ عِنْدَ هَاتِهِ الْحَالَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ تَذْكِيرًا بِذَلِكَ وَتَنْبِيهًا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا شِدَّةَ تَصْوِيرِ الْمَعَانِي وَلِذَلِكَ يُطْنِبُونَ وَيُشَبِّهُونَ وَيُمَثِّلُونَ وَيَصِفُونَ الْمَعْرِفَةَ وَيَأْتُونَ بِالْحَالِ وَيُعَدِّدُونَ الْأَخْبَارَ وَالصِّفَاتِ فَهَذَا إِطْنَابٌ بَدِيعٌ كَمَا فِي قَوْلِ طَرَفَةَ:
نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وَقَيْنَةٌ ... تَرُوحُ إِلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ وَمَجْسَدُُِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute