للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدِ اسْتُفِيدَ ذَلِكَ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُذَيَّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا [الْأَعْرَاف: ١٧٥] فَإِيتَاءُ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنَ الْهِدَايَةِ بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا فَانْسَلَخَ مِنْها [الْأَعْرَاف: ١٧٥] وَقَالَ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الْأَعْرَاف: ١٧٦] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الْأَعْرَاف: ١٧٦] فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهُ الِاهْتِدَاءَ، فَالْحَالَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُدَ إِلَى الْأَرْضِ لَيْسَتْ حَالَةَ هُدًى، وَلَكِنَّهَا حَالَةُ تَرَدُّدٍ وَتَجْرِبَةٍ، كَمَا تَكُونُ حَالَةُ الْمُنَافِقِ عِنْدَ حُضُورِهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ يَكُونُ مُتَلَبِّسًا بِمَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُبْطِنٍ لَهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧] ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى هُنَا: مَنْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُهْتَدِيًا فَهُوَ الْمُهْتَدِي.

وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْكَمَالِ وَاسْتِمْرَارِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وَفَاةِ صَاحِبِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْمُوَافَاةِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، أَيْ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ وَإِنْ بَانَ مُهْتَدِيًا فَلَيْسَ بِالْمُهْتَدِي لِيَنْطَبِقَ هَذَا عَلَى حَالِ الَّذِي أُوتِيَ الْآيَاتِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُرْفَعَ بِهَا.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَيْسَ مِنْ بَابِ قَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:

وَشِعْرِي شِعْرِي

وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»

لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَيْسَ فِي مَفَادِ الثَّانِي مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَفَادِ مَا قَبْلَهُ بِخِلَافِ مَا فِي الْآيَةِ فَإِنَّ فِيهَا الْقَصْرَ.

وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَزِيدَ فِي جَانِبِ الْخَاسِرِينَ الْفَصْلُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِتَمْيِيزِهِمْ بِعُنْوَانِ الْخُسْرَانِ تَحْذِيرًا مِنْهُ، فَالْقَصْرُ فِيهِ مُؤَكِّدٌ.

وَجُمِعَ الْوَصْفُ فِي الثَّانِي مُرَاعَاةً لِمَعْنَى (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ، وَإِنَّمَا رُوعِيَ مَعْنَى (مَنِ) الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَلِتَبَيُّنِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِ (مَنِ) الْأُولَى مُفْرَدًا.

وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ الْهِدَايَةِ بِالْإِضْلَالِ، وَمُقَابَلَةِ الْمُهْتَدِي بِالْخَاسِرِ أَنَّ الْمُهْتَدِيَ فَائِزٌ رَابِحٌ فَحُذِفَ ذِكْرُ رِبْحِهِ إِيجَازًا.

وَالْخُسْرَانُ اسْتُعِيرَ لِتَحْصِيلِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعَمَلِ كَمَا يُسْتَعَارُ الرِّبْحُ لِحُصُولِ