يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ فِي ذَرَأْنا وَهُوَ تَكَلُّفٌ رَاعَى بِهِ قَوَاعِدَ الِاعْتِزَالِ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَفِي نِسْبَةِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: لِجَهَنَّمَ كَثِيراً لِيَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِ ذَرَأْنا.
وَمَعْنَى خَلْقِ الْكَثِيرِ لِأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُفْضِيَةِ إِلَى النَّارِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَثِيرًا فَجَعَلَ فِي نُفُوسِهِمْ قُوًى مِنْ شَأْنِهَا إِفْسَادُ مَا أَوْدَعَهُ فِي النَّاسِ مِنِ اسْتِقَامَةِ الْفِطْرَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَاف: ١٧٢] وَهِيَ قُوَى الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَخَلْقُهَا أَشَدُّ سُلْطَانًا عَلَى نُفُوسِهِمْ مِنَ الْقُوَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ الْحِكْمَةَ، فَجُعِلَتِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ الْمُسَمَّيْنَ بِالْهَوَى تَغْلِبُ قُوَّةَ الْفِطْرَةِ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ وَالرَّشَادُ، فَتُرَجِّحُ نُفُوسُهُمْ دَوَاعِي الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ فَتَتْبَعُهَا وَتُعْرِضُ عَنِ الْفِطْرَةِ، فَدَلَائِلُ الْحَقِّ قَائِمَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْهَا لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْهِمْ فَبِحَسَبِ خِلْقَةِ نُفُوسِهِمْ غَيْرَ ذَاتِ عَزِيمَةٍ عَلَى مُقَاوَمَةِ الشَّهَوَاتِ: جُعِلُوا كَأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِجَهَنَّمَ، وَكَأَنَّهُمْ لَمْ تَخْلُقْ فِيهِمْ دَوَاعِي الْحَقِّ فِي الْفِطْرَةِ.
وَالْجِنُّ خَلْقٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لَنَا، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ، وَأَنَّهُمْ مَطْبُوعُونَ عَلَى مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَهَذَا الْخَلْقُ لَا قِبَلَ لَنَا بِتَفْصِيلِ نِظَامِهِ وَلَا كَيْفِيَّاتِ تَلَقِّيهِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: لَهُمْ قُلُوبٌ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ لِخُصُوصِ الْإِنْسِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ: قُلُوبٌ،
وَعُقُولٌ، وَعُيُونٌ وَآذَانٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ لِلْجِنِّ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمَ الْجِنَّ عَلَى الْإِنْسِ فِي الذِّكْرِ، لِيَتَعَيَّنَ كَوْنُ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ مِنْ بَعْدُ صِفَاتٍ لِلْإِنْسِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ.
والقلوب اسْمٌ لِمَوْقِعِ الْعُقُولِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧] .
وَالْفِقْهُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥] .
وَمَعْنَى نَفْيِ الْفِقْهِ وَالْإِبْصَارِ والسمع عَن آلالتها الْكَائِنَةِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ عَطَّلُوا أَعْمَالَهَا بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا فِي أَهَمِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَيْرُ الْأَبَدِيُّ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute