للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(١٩٠)

جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا، عَادَ بِهَا الْكَلَامُ إِلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ مِنَ الَّذِي سَلَفَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف:

١٧٢] الْآيَةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: ١٨٨] لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَقُولَ قُصِدَ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ وَصْفِ الرِّسَالَةِ وَعِلْمِ الرَّسُولِ بِالْغَيْبِ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ، فَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْآخَرُ كَلَامًا مُوَجَّهًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِفَسَادِ عُقُولِهِمْ فِي إِشْرَاكِهِمْ وَإِشْرَاكِ آبَائِهِمْ.

وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ جَرَيَانُ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ [الْأَعْرَاف: ١٨٨] وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي خَلَقَكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَجِ وَالتَّذْكِيرِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ هَذَا الْكَلَامِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَقَدْ صَدَّرَ ذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ النَّوْعِ الْمُبْتَدَأِ بِخَلْقِ أَصله وَهُوَ ءادم وَزَوْجُهُ حَوَّاءُ تَمْهِيدًا لِلْمَقْصُودِ.

وَتَعْلِيقُ الْفِعْلِ بِاسْمِ الْجَمْعِ، فِي مِثْلِهِ، فِي الِاسْتِعْمَالِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْمَجْمُوعِيَّ، أَيْ جُمْلَةُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، أَيْ خَلَقَ مَجْمُوعَ الْبَشَرِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ نَفْسُ آدَمَ الَّذِي تَوَلَّدَ مِنْهُ جَمِيعُ الْبَشَرِ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكُلَّ الْجَمِيعِيَّ أَيْ خَلَقَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَتَكُونُ النَّفْسُ هِيَ الْأَبُ، أَيْ أَبُو كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] وَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الْقِيَامَة: ٣٩] .

وَلَفْظُ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَحْدَهُ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ فِي كِلَا الْخَلْقَيْنِ امْتِنَانًا، وَفِي كليهمَا اعْتِبَارا واتعاضا.

وَقَدْ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ آدَمَ وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ جَعَلُوا الْأَبَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْفَخْرُ، وَالْبَيْضَاوِيُّ