للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرِّفْعَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ: وَيُسَبِّحُونَهُ أَيْ يُنَزِّهُونَهُ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَهَذِهِ الصِّلَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالذِّكْرِ.

وَاخْتِيَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّجْدِيدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، أَوْ كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ يَسْجُدُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَيْ وَلَا يَسْجُدُونَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِغَيْرِهِ، وَالْمُضَارِعُ يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ أَيْضًا.

وَهُنَا مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَوَّلُهَا فِي تَرْتِيبِ الصُّحُفِ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَى السُّجُودِ فِيهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَمُقْتَضَى السَّجْدَةِ هُنَا أَنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ لِلْحَضِّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْمَلَائِكَةِ فِي الذِّكْرِ، فَلَمَّا أَخْبَرَتْ عَنْ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، أَرَادَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَادِرَ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ تَحْقِيقًا للمقصد الَّذِي سبق هَذَا الْخَبَرُ لِأَجْلِهِ.

وَأَيْضًا جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ ذِكْرُ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَأْتِيهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ كَمَا يَقْتَرِحُونَ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الْأَعْرَاف: ٢٠٣] وَبِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِمَاعِ لِلْقُرْآنِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، شَرَعَ اللَّهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ سُجُودًا لِيَظْهَرَ إِيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ وَجُحُودُ الْكَافِرِينَ بِهِ حِينَ سَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُمْسِكُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ سُجُودِ الْقُرْآنِ أَنَّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ إِغَاظَةً لِلْمُشْرِكِينَ أَوِ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْمُرْسَلِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَجْدَةِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: ٢٤] أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠] فَدَاوُدُ مِمَّنْ أَمر مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ.