للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَ (أَنِّي مَعَكُمْ) قِيلَ هُوَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولُ يُوحِي، أَيْ يُوحِي إِلَيْهِمْ ثُبُوتَ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ، مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِيُوحِيَ، بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ.

وَأَنْتَ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَال: ٩] مِنَ تَحْقِيقِ أَنْ تَكُونَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ مُفِيدَةً مَعْنَى (أَنَّ) التَّفْسِيرِيَّةِ، إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.

وَالْمَعِيَّةُ حَقِيقَتُهَا هُنَا مُسْتَحِيلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْمَعِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، فَقَدْ يكون مَعْنَاهَا توجه عِنَايَتِهِ إِلَيْهِمْ وَتَيْسِيرِ الْعَمَلِ لَهُمْ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُ (مَعَ) بِمِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤] .

وَإِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْرِيفُهُمْ وَتَشْرِيفُ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُكَلَّفُونَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تُؤْذِنُ إِجْمَالًا بِوُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَدْعِي الْمُصَاحَبَةَ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَهُمْ: أَنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةً لِلتَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ وَلِذَلِكَ يَذْكُرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعِيَّةُ لِأَنَّهُ سَيُعْلَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، أَيْ أَنِّي مَعَكُمْ فِي عَمَلكُمْ الَّذِي أكفلكم بِهِ.

وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنِّي مَعَكُمْ مِنَ التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي التَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ إِبْدَالٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِاقْتِلَاعِهَا وَوَضْعِ أَضْدَادِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجُبْنَ شَجَاعَةً، وَالْخَوْفَ إِقْدَامًا

وَالْهَلَعَ ثَبَاتًا، فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُ الْعِزَّةَ رُعْبًا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ الْمُعْتَادَةِ فَكَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَهِدَ لِلْمَلَائِكَةِ عَمَلَهَا خَوَارِقَ عَادَاتٍ.

وَالتَّثْبِيتُ هُنَا مَجَازٌ فِي إِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ النَّفْسَانِيِّ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْخَوْفِ وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَاطْمِئْنَانِهِ.

وَعَرَّفَ الْمُثَبَّتُونَ بالموصول لما تومىء إِلَيْهِ صِلَةُ آمَنُوا مِنْ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِعِنَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ وَصْفِ الْإِيمَانِ.

وَتَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ إِيقَاعِ ظَنٍّ فِي نُفُوسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِلْهَامًا وَتَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَإِزَالَةٌ لِلِاضْطِرَابِ الشَّيْطَانِيِّ، وَإِنَّمَا