فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ لِلُطْفٍ عَظِيمٍ حَفَّهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ حَالَةُ مَوْقِعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَيْفَ الْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ عَدُوٍّ قَوِيِّ الْعِدَّةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَكَانَةِ مِنْ حُسْنِ الْمَوْقِعِ.
وَلَوْلَا هَذَا الْمَقْصِدُ مِنْ وَصْفِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ لَمَا كَانَ مِنْ دَاعٍ لِهَذَا الْإِطْنَابِ إِذْ لَيْسَ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَصْفُ الْمَنَازِلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ عِبْرَةٌ.
وَالْعُدْوَةُ بِتَثْلِيث الْعين صفة الْوَادِي وَشَاطِئُهُ، وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ فِي الْعَيْنِ أَفْصَحُ وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ، فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-.
وَالْمرَاد بهَا شاطىء وَادِي بَدْرٍ. وَبَدْرٌ اسْمُ مَاءٍ. والدُّنْيا هِيَ الْقَرِيبَةُ أَيِ الْعُدْوَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ، فَهِيَ أَقْرَبُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدْوَةِ الَّتِي مِنْ جِهَة مَكَّة.
وبِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى هِيَ الَّتِي مِمَّا يَلِي مَكَّةَ، وَهِيَ كَثِيبٌ، وَهِيَ قُصْوَى بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِ بَلَدِ الْمُسلمين.
وَالْوَصْف ب الدُّنْيا والْقُصْوى يَشْعُرُ الْمُخَاطَبُونَ بِفَائِدَتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا حَرِيصِينَ أَنْ يَسْبِقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، لِأَنَّهَا أَصْلَبُ أَرْضًا فَلَيْسَ لِلْوَصْفِ بِالدُّنُوِّ وَالْقُصُوِّ أَثَرٌ فِي تَفْضِيلِ إِحْدَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ صَادَفَ أَنْ كَانَتِ الْقُصْوَى أَسْعَدَ بِنُزُولِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا سَبَقَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا اغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا أَرْسَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا فَلَبَّدَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ وَلَمْ يَعُقْهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ وَأَصَابَ الْأَرْضَ الَّتِي بِهَا قُرَيْشٌ فَعَطَّلَهُمْ عَنِ الرَّحِيلِ، فَلَمْ يَبْلُغُوا بَدْرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ وَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَوْقِعٍ وَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءِ، فَاتَّخَذُوا حَوْضًا يَكْفِيهِمْ وَغَوَّرُوا الْمَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمَاءِ وَجَدُوهُ قَدِ احْتَازَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ وَلَا يَجِدُ الْمُشْرِكُونَ مَاءً.
وَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا فِي لَفْظِ الْجَمْعانِ مِنْ مَعْنَى: جَمْعُكُمْ وَجَمْعُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا لَمْ يَبْقَ مَعَادٌ لِضَمِيرِ وَهُمْ إِلَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ.
والرَّكْبُ هُوَ رَكْبُ قُرَيْشٍ الرَّاجِعُونَ مِنَ الشَّامِ، وَهُوَ الْعِيرُ. أَسْفَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
أَيْ أَخْفَضَ مِنْ مَنَازِلِهِمَا، لِأَنَّ الْعِيرَ كَانُوا سَائِرِينَ فِي طَرِيقِ السَّاحِلِ، وَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute