للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ عَقِبَ قَوْلِهِ: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: ٢٢] . وَأُتِيَ بِإِنْ فِي تَعْلِيقِ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ فِي رَيْبٍ وَقَدْ عُلِمَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي اخْتِصَاصُ إِنْ بِمَقَامِ عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ مَدْلُولَ هَذَا الشَّرْطِ قَدْ حَفَّ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَقْلَعَ الشَّرْطَ مِنْ أَصْلِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ وُقُوعُهُ مَفْرُوضًا فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِإِنْ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُخَاطَبِ عِلْمَ الْمُتَكَلِّمِ بِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ تَوْبِيخًا عَلَى تَحَقُّقِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، كَأَنَّ رَيْبَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَضْعَفُ الْوُقُوعِ.

وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِ اشْتَطَّتْ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ عَلَى مَا لَوْ تَدَبَّرَهُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ لَجَزَمَ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ جَاءَ عَلَى فَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ مَا عَهِدُوا مِثْلَهُمَا مِنْ فُحُولِ بُلَغَائِهِمْ، وَهُمْ فِيهِمْ مُتَوَافِرُونَ مُتَكَاثِرُونَ حَتَّى لَقَدْ سَجَدَ بَعْضُهُمْ لِبَلَاغَتِهِ وَاعْتَرَفَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ بَشَرٍ. وَقَدِ اشْتَمَلَ مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا لَمْ يَطْرُقْهُ شُعَرَاؤُهُمْ وَخُطَبَاؤُهُمْ وَحُكَمَاؤُهُمْ، بَلْ وَعَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَى بَعْضِهِ عُلَمَاءُ الْأُمَمِ. وَلَمْ يَزَلِ الْعِلْمُ فِي طُولِ الزَّمَانِ يُظْهِرُ خَبَايَا الْقُرْآنِ وَيُبَرْهِنُ عَلَى صِدْقِ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ كَافِيَةٌ لَهُمْ فِي إِدْرَاكِ ذَلِكَ وَهُمْ أَهْلُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ وَالْفَطِنَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا أَشْعَارُهُمْ وَأَخْبَارُهُمْ وَبَدَاهَتُهُمْ وَمُنَاظَرَتُهُمْ، وَالَّتِي شَهِدَ لَهُمْ بِهَا الْأُمَمُ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَكَيْفَ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَسْلَكٌ لِلرَّيْبِ فِيهِ إِلَيْهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مُنْغَمِسِينَ فِيهِ.

وَوَجْهُ الْإِتْيَانِ بِفِي الدَّالَّةِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدِ امْتَلَكَهُمُ الرَّيْبُ وَأَحَاطَ

بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ. وَاسْتِعَارَةُ (فِي) لِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ شَائِعَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ هُوَ فِي نعْمَة.

وأتى بِفعل نَزَّلَ دُونَ أَنْزَلَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ نُجُومًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ فَعَّلَ يَدُلُّ عَلَى التَّقَضِّي شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى أَنَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» قَدْ ذَكَرَ أَنَّ اخْتِيَارَهُ هُنَا فِي مَقَامِ التَّحَدِّي لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْلا نُزِّلَ (١) عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُثَارَاتِ شُبَهِهِمْ نَاسَبَ ذِكْرَهُ فِي تَحَدِّيهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُنَجَّمَةٍ.

وَالسُّورَةُ قِطْعَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ مُعَيَّنَةٌ فَتَمَيُّزُهُ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ أَمْثَالِهَا بِمَبْدَأٍ وَنِهَايَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ فَأَكْثَرَ فِي غَرَضٍ تَامٍّ أَوْ عِدَّةِ أَغْرَاضٍ. وَجَعْلُ لَفْظِ سُورَةٍ اسْمًا جِنْسِيًّا لِأَجْزَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ اصْطِلَاحٌ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّورِ وَهُوَ الْجِدَارُ الَّذِي يُحِيطُ بِالْقَرْيَةِ أَوِ الْحَظِيرَةِ، فَاسْمُ السُّورَةِ خَاصٌّ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا


(١) فِي المطبوعة: أنزل.