وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَطْفٌ عَلَى بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَالتَّقْدِيرُ:
وَبِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَهَذَا عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِإِيقَاعِ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ، فَالْعِلَّةُ الْأُولَى، الْمُفَادَةُ مِنْ بَاءِ السَّبَبِيَّةِ تَعْلِيلٌ لِإِيقَاعِ الْعِقَابِ. وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ، الْمُفَادَةُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الْبَاءِ وَمَجْرُورِهَا، تَعْلِيلٌ لِصِفَةِ الْعَذَابِ أَيْ هُوَ عَذَابٌ مُعَادِلٌ لِأَعْمَالِهِمْ، فَمَوْرِدُ الْعِلَّتَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكِنْ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ.
وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةٌ عَنْ عَدْلِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ الْأَلِيمَ كَانَ كِفَاءً لِلْعَمَلِ الْمُجَازَى عَنْهُ دُونَ إِفْرَاطٍ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» التَّعْلِيلَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ، فَجَعَلَهُمَا سَبَبَيْنِ لِكُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، وَأَنَّ التَّعْذِيبَ مِنَ الْعَدْلِ مِثْلُ الْإِثَابَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ تَرْكَ اللَّهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِهِ إِذَا شَاءَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِظُلْمٍ، وَالْمَوْضُوعُ هُوَ الْعِقَابُ عَلَى الْإِشْرَاكِ وَالْفَوَاحِشِ، وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ فَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقَدْ يُعَوَّضُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ بِتَرْضِيَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مَا فِي «الْكَشَّافِ» غَيْرَ خَالٍ عَنْ تَعَسُّفٍ حَمَلَهُ عَلَيْهِ الْإِسْرَاعُ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلْعَدْلِ أَوْ لِلْحِكْمَةِ.
وَنَفْيُ ظَلَّامٍ- بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ- لَا يُفِيدُ إِثْبَاتَ ظُلْمٍ غَيْرِ قَوِيٍّ لِأَنَّ الصِّيَغَ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا، وَجَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى النَّفْيِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا، وَيُزَادُ هُنَا الْجَوَابُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ الْكَثْرَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الظُّلْمِ الْمَنْفِيِّ، لَوْ قُدِّرَ ثُبُوتُهُ، بِالْعَبِيدِ الْكَثِيرِينَ، فَعُبِّرَ بِالْمُبَالَغَةِ عَنْ كَثْرَةِ أَعْدَادِ الظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَفْرَادِ مَعْمُولِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْعَبِيدِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ: لِعَبِيدِهِ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: ٤١] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبِيدُ أُطْلِقَ عَلَى مَا يُرَادِفُ النَّاسَ كَمَا أُطْلِقَ الْعِبَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ فِي سُورَة يس [٣٠] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute