للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَالْعَهْدُ، الَّذِي أَعْطَوْهُ، هُوَ الْعَهْدُ بِأَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ إِذَا أَطْلَقُوهُمْ فَمِنَ الْأَسْرَى مَنْ يَخُونُ الْعَهْدَ وَيَرْجِعُ إِلَى قِتَالِ مَنْ أَطْلَقُوهُ.

وَخِيَانَتُهُمَ اللَّهَ، الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الشِّرْكُ فَإِنَّهُ خِيَانَةٌ لِلْعَهْدِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فِيمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: ١٧٢] الْآيَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ فِي الْفِطْرَةِ، وَمَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَهِيَ تَشْعُرُ بِهِ، وَلَكِنَّهَا تُغَالِبُهَا ضَلَالَاتُ الْعَادَاتِ وَاتِّبَاعُ الْكُبَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَأَنْ يُرَادَ بِهَا الْعَهْدُ الْمُجْمَلُ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الْأَعْرَاف: ١٨٩، ١٩٠] .

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَهْدِ مَا نَكَثُوا مِنَ الْتِزَامِهِمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقِهِ إِذَا جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ، فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ كَفَرُوا بِهِ وَكَابَرُوا.

وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ.

وَتَقْدِيرُهُ: فَلَا تَضُرُّكَ خِيَانَتُهُمْ، أَوْ لَا تَهْتَمَّ بِهَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا أَعَادَهُمُ اللَّهُ إِلَى يَدِكَ كَمَا أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ مِنْ قَبْلُ.

قَوْلُهُ: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ سَكَتَ مُعْظَمُ التَّفَاسِيرِ وَكُتُبُ اللُّغَةِ عَنْ تَبْيِينِ حَقِيقَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ، وَبَيَانِ اشْتِقَاقِهِ، وَأَلَمَّ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلْمَامًا خَفِيفًا بِأَنْ فسروا (أمكن) بأقدر، فَهَلْ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ مِنَ الْإِمْكَانِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ أَوْ مِنَ الْمَكَانَةِ بِمَعْنَى الظَّفَرِ. وَوَقَعَ فِي «الْأَسَاسِ» «أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ مَعْنَاهُ أَمْكَنَنِي مِنْ نَفْسِهِ» وَفِي «الْمِصْبَاحِ» «مَكَّنْتُهُ مِنَ الشَّيْءِ تَمْكِينًا وَأَمْكَنْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةً» .

وَالَّذِي أَفْهَمُهُ مِنْ تَصَارِيفِ كَلَامِهِمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَكَانِ وَأَنَّ الْهَمْزَةَ فِيهِ لِلْجَعْلِ، وَأَنَّ مَعْنَى أَمْكَنَهُ مِنْ كَذَا جَعَلَ لَهُ مِنْهُ مَكَانًا أَيْ مَقَرًّا، وَأَنَّ الْمَكَانَ مَجَازٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ كَمَا يَكُونُ الْمَكَانُ مَجَالًا لِلْكَائِنِ فِيهِ.