للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لِإِفَادَةِ الاهتمام بتمييزهم للإخبار عَنْهُمْ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِ الْفِرَقِ الْأُخْرَى.

وَلَمَّا أَطْلَقَ اللَّهُ الْوَلَايَةَ بَيْنَهُمُ احْتَمَلَ حَمْلَهَا عَلَى أَقْصَى مَعَانِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْرِدُهَا فِي خُصُوصِ وَلَايَةِ النَّصْرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَوُرُودِ الْعَامِّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ جُعِلَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، حَتَّى أَنْزَلَ الله قَوْله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٧٥] أَيْ فِي الْمِيرَاثِ فَنَسَخَتْهَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. فَحَمَلَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمِيرَاثَ، فَقَالَ: كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ لَا يَرِثُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرِ الَّذِي آمَنَ وَهَاجَرَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِك بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الْأَنْفَال: ٧٥] .

وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَذِهِ الْوَلَايَةُ هِيَ فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُعَاوَنَةِ دُونَ الْمِيرَاثِ اعْتِدَادًا بِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالشَّافِعِيِّ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَا تَشْمَلُ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ- أَيْ وَلَوْ كَانَ عَاصِبًا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ جَاءَ عَلَى أُسْلُوبِ تَقْسِيمِ الْفِرَقِ فَعُطِفَ كَمَا عُطِفَتِ الْجُمَلُ بَعْدَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ جُعِلَ تَكْمِلَةً لِحُكْمِ الْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ فَصَارَ لَهُ اعْتِبَارَانِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمُصْحَفِ مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، آيَةً

وَاحِدَةً نِهَايَتُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

فَإِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ أَيِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الشِّرْكِ، وَأَنَّ وَصْفَ الْهِجْرَةِ يُقَابِلُهُ وَصْفُ الْمُكْثِ بِدَارِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا بَيَّنَ أَوَّلَ الْآيَةِ مَا لِأَصْحَابِ الْوَصْفَيْنِ: الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ، مِنَ الْفَضْلِ وَمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَلَايَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيَانِ حَالِ الْفَرِيقِ الَّذِي يُقَابِلُ أَصْحَابَ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ، فَبَيَّنَتْ حُكْمَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَأَثْبَتَتْ لَهُمْ وَصْفَ الْإِيمَانِ، وَأَمَرَتِ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بالتبري مِنْ وَلَايَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا،