وَأَمَّا هَمُّهُمْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ هَمٌّ حَصَلَ مَعَ نَكْثِ أَيْمَانِهِمْ وَأَنَّ الْمُرَادَ إِخْرَاجُ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَيْ نَفْيُهُ عَنْهَا لِأَنَّ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ أَمْرٌ قَدْ مَضَى مُنْذُ سِنِينَ، وَلِأَنَّ إِلْجَاءَهُ إِلَى الْقِتَالِ لَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ الْإِخْرَاجِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَمَّهُمْ هَذَا أَضْمَرُوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَبَّهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ. وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا نَكَثُوا الْعَهْدَ طَمِعُوا فِي إِعَادَةِ الْقِتَالِ وَتَوَهَّمُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْصُورِينَ وَأَنَّهُمْ إِنِ انْتَصَرُوا أَخْرَجُوا الرَّسُولَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- من الْمَدِينَة.
و (الْهم) هُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ أَمِ انْصَرَفَ عَنْهُ. وَمُؤَاخَذَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْهَمِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهُ، وَإِلَّا لَكَانَ الْأَجْدَرُ أَنْ يَنْعَى عَلَيْهِمِ الْإِخْرَاجَ لَا الْهَمَّ بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التَّوْبَة: ٤٠] وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ إِلَّا لَمَّا حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَنْفِيذِهِ، فَعَنِ الْحَسَنِ: هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ غَزَوْهُ فِي أُحُدٍ وَحِينَ غَزَوْا غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ، أَيْ فَكَفَاهُ اللَّهُ
سُوءَ مَا هَمُّوا بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ مِنْ مَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ انْعِقَادِ الْعَهْدِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ قَبَائِلُ كَانُوا مُعَاهِدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَنَكَثُوا الْعَهْدَ سَنَةَ ثَمَانٍ، يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَمُّوا بِنَجْدَةِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْح، والغدر بالنّبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَأْتُوهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَيَكُونُوا هُمْ وَقُرَيْشٌ أَلْبًا وَاحِدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَيُخْرِجُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَمُّوا، وَفَضَحَ دَخِيلَتَهُمْ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَنَبْذِ عَهِدِهِمْ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَلَا نَدْرِي أَقَاتَلَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ كَانَ إِعْلَانُ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ (وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ) سَبَبًا فِي إِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، تَحْقِيقًا لِلرَّجَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التَّوْبَة: ١٢] وَلَعَلَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَدْ أَعْلَنُوا الْحَرْبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ نَاكِثِينَ الْعَهْدَ، وَأَمَدُّوا قُرَيْشًا بِالْعُدَدِ، فَلَمَّا لَمْ تَنْشِبْ حَرْبٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ أَيِسُوا مِنْ نُصْرَتِهِمْ فَرَجَعُوا إِلَى دِيَارِهِمْ، وَأَغْضَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ بِغَدْرِهِمْ، وَبَقِيَ عَلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْعَهْدِ، فَاسْتَمَرَّ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَوْله: وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute