للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ، وَأَنَّ شُعَبَهُ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمَكَارِمِ وَالْخَيْرَاتِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الصِّفَتَيْنِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْإِيمَانِ، وَخَاصَّةً الْجِهَادَ.

وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ: لَوْلَا الْجِهَادُ لَمَا كَانَ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ كَانَ مِنْ آثَارِ غَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ وَجَيْشِ الْفَتْحِ إِذْ آمَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ صَاحِبُ السِّقَايَةِ، وَآمَنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ صَاحِبُ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

فَأَمَّا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَيُّ وَالْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، بِسَبَبِ الْمُمَارَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبَّاسِ، فَمَوْقِعُ التَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ:

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَاضِحٌ: أَيْ لَا يَهْدِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْقُونَ الْحَاجَّ وَيَعْمُرُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، إِذْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ مَعَ الْإِشْرَاكِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ الْجِهَادِ، وَتَنَازُعَهُمْ فِي ذَلِكَ، خَطَأٌ مِنَ النَّظَرِ، إِذْ لَا تَسْتَقِيمُ تَسْوِيَةُ التَّابِعِ بِالْمَتْبُوعِ وَالْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، وَلَوْ كَانَتِ السِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ مُسَاوِيَتَيْنِ لِلْجِهَادِ لَكَانَ أَصْحَابُهُمَا قَدِ اهْتَدَوْا إِلَى نَصْرِ الْإِيمَانِ، كَمَا اهْتَدَى إِلَى نَصْرِهِ الْمُجَاهِدُونَ، وَالْمُشَاهَدَةُ دَلَّتْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ: فَإِنَّ الْمُجَاهِدِينَ كَانُوا مُهْتَدِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ بِالْمُهْتَدِينَ. فَالْهِدَايَةُ شَاعَ إِطْلَاقُهَا مَجَازًا بِاسْتِعَارَتِهَا لِمَعْنَى الْإِرْشَادِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَهِيَ بِحَسَبِ هَذَا الْإِطْلَاقِ مُرَادٌ بِهَا مَطْلُوبٌ خَاصٌّ وَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا يَقْتَضِيهِ تَعْقِيبُ ذِكْرِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ.

وَكُنِّيَ بِنَفْيِ الْهِدَايَةِ عَنْ نَفْيِ حُصُولِ الْغَرَضِ مِنَ الْعَمَلِ.

وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْقَوْمِ الْمُشْرِكِينَ أَعْمَالَهُمْ.

وَنُسِبَ إِلَى ابْنِ وَرْدَانَ أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَرَأَ: سُقَاةَ الْحَاجِّ- بِضَمِّ السِّينِ جَمْعُ السَّاقِي-

وَقَرَأَ وَعَمَرَةَ- بِالْعَيْنِ الْمَفْتُوحَةِ وَبِدُونِ أَلِفٍ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ عَامِرٍ- وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَنِ ابْن وردان.