للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأُسْنِدَ النَّصْرُ إِلَى اللَّهِ بِالصَّرَاحَةِ لِإِظْهَارِ أَنَّ إِيثَارَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يُفِيتُ بَعْضَ حُظُوظِ الدُّنْيَا، فَفِيهِ حَظُّ الْآخِرَةِ وَفِيهِ حُظُوظٌ أُخْرَى مِنَ الدُّنْيَا وَهِيَ حُظُوظُ النَّصْرِ بِمَا فِيهِ:

مِنْ تَأْيِيدِ الْجَامِعَةِ، وَمِنَ الْمَغَانِمِ، وَحِمَايَةِ الْأُمَّةِ مِنِ اعْتِدَاءِ أَعْدَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إِذْ

آثَرُوا مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ عَلَائِقِهِمِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

وَأَكَّدَ الْكَلَام ب لَقَدْ لِتَحْقِيقِ هَذَا النَّصْرِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَأَنَّهُمْ نَسُوهُ أَوْ شَكُّوا فِيهِ فَنَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ.

ومَواطِنَ: جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَالْمَوْطِنُ أَصْلُهُ مَكَانُ التَّوَطُّنِ، أَيِ الْإِقَامَةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى مَقَامِ الْحَرْبِ وَمَوْقِفِهَا، أَيْ نَصْرِكُمْ فِي مَوَاقِعِ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ.

ويَوْمَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَواطِنَ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ نَصَرَكُمُ وَالتَّقْدِيرُ: وَنَصَرَكُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاطِنِ، لِأَنَّ مَوَاطِنَ الْحَرْبِ تَقْتَضِي أَيَّامًا تَقَعُ فِيهَا الْحَرْبُ، فَتَدُلُّ الْمَوَاطِنُ عَلَى الْأَيَّامِ كَمَا تَدُلُّ الْأَيَّامُ عَلَى الْمَوَاطِنِ، فَلَمَّا أُضِيفَ الْيَوْمُ إِلَى اسْمِ مَكَانٍ عُلِمَ أَنَّهُ مَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ النَّصْرِ وَلِذَلِكَ عُطِفَ بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْطَفْ لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْمُرَادَ. وَلِهَذَا فَالتَّقْدِيرُ: فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَأَيَّامَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَوْطِنُ حُنَيْنٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ.

وَتَخْصِيصُ يَوْمِ حُنَيْنٍ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ أَيَّامِ الْحُرُوبِ: لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ انْهَزَمُوا فِي أَثْنَاءِ النَّصْرِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِمُ النَّصْرُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبْرَةِ بِحُصُولِ النَّصْرِ عِنْدَ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَحُصُولِ الْهَزِيمَةِ عِنْدَ إِيثَارِ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ عَلَى الِامْتِثَالِ، فَفِيهِ مَثَلٌ وَشَاهِدٌ لِحَالَتَيِ الْإِيثَارَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ [التَّوْبَة: ٢٤] لِيَتَنَبَّهُوا إِلَى أَنَّ هَذَا الْإِيثَارَ قَدْ يَعْرِضُ فِي أَثْنَاءِ إِيثَارٍ آخَرَ، فَهُمْ لَمَّا خَرَجُوا إِلَى غَزْوَةِ حُنَيْنٍ كَانُوا قَدْ آثَرُوا مَحَبَّةَ الْجِهَادِ عَلَى مَحَبَّةِ أَسْبَابِهِمْ وَعَلَاقَاتِهِمْ، ثُمَّ هُمْ فِي أَثْنَاءِ الْجِهَادِ قَدْ عَاوَدَهُمْ إِيثَارُ الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ إِيثَارِ مَحَبَّتِهَا، وَهِيَ عِبْرَةٌ دَقِيقَةٌ حَصَلَ فِيهَا الضِّدَّانِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ