وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ كَشَفَ سِرًّا مِنْ أَسْرَارِ نُفُوسِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي
نُفُوسِهِمْ شُحًّا وَحِرْصًا عَلَى الْمَالِ وَفِتْنَةً بِتَوْفِيرِهِ وَالْإِشْفَاقِ مِنْ ضَيَاعِهِ، فَجَعَلَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ مِنْ جَرَّاءِ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ فِي كَبَدٍ مِنْ جَمْعِهَا. وَفِي خَوْفٍ عَلَيْهَا مِنَ النُّقْصَانِ، وَفِي أَلَمٍ مِنْ إِنْفَاقِ مَا يُلْجِئُهُمُ الْحَالُ إِلَى إِنْفَاقِهِ مِنْهَا، فَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا الشَّأْنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ، وَتَمَّ مُرَادُهُ. وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهَذَا شَأْنُ الْبُخَلَاءِ وَأَهْلِ الشُّحِّ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَهُمْ مَسْلَاةٌ عَنِ الرَّزَايَا بِمَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِنْفَاقِ أَوْ عَلَى الصَّبْرِ. ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخُلُقُ قَدْ جَبَلَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ بَوَاعِثِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، إِذْ الْخلق السيّء يَدْعُو بَعْضُهُ بَعْضًا، فَإِنَّ الْكفْر خلق سيّء فَلَا عَجَبَ أَنْ تَنْسَاقَ إِلَيْهِ نَفْسُ الْبَخِيلِ الشَّحِيحِ، وَالنِّفَاقُ يَبْعَثُ عَلَيْهِ الْخلق السيّء مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، لِيَتَّقِي صَاحِبُهُ الْمَخَاطِرَ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ فِي أَوْلَادِهِمْ إِذْ كَانُوا فِي فِتْنَةٍ مِنَ الْخَوْفِ عَلَى إِيمَانِ بَعْضِ أَوْلَادِهِمْ، وَعَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَوْلَادِهِمُ الْمُوَفَّقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ: مِثْلِ حَنْظَلَةَ: ابْن أَبِي عَامِرٍ الْمُلَقَّبِ غِسِّيلَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ أَبَوَيْهِمَا.
وَلِكَوْنِ ذِكْرِ الْأَوْلَادِ كَالتَّكْمِلَةِ هُنَا لِزِيَادَةِ بَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِكُلِّ مَا هُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ، عُطِفَ الْأَوْلَادُ بِإِعَادَةِ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كَالتَّكْمِلَةِ وَالِاسْتِطْرَادِ.
وَاللَّامُ فِي لِيُعَذِّبَهُمْ لِلتَّعْلِيلِ: تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حِكْمَةٌ وَعِلَّةٌ فَتُغْنِي عَنْ مَفْعُولِ الْإِرَادَةِ، وَأَصْلُ فِعْلِ الْإِرَادَةِ أَنْ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] وَيُعَدَّى غَالِبًا بِاللَّامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦] وَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا ... تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ
وَرُبَّمَا عَدُّوهُ بِاللَّامِ وَكَيْ مُبَالَغَةً فِي التَّعْلِيلِ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ:
أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute