للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِإِلْقَاءِ الشَّكِّ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَذْرِ الْخَصِيبِ فِي تَنْفِيرِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.

رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ: إِنَّ

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ

[الْحَج: ٧٣] وَقَوْلُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: ٤١] قَالَ الْمُشْرِكُونَ أَرَأَيْتُمْ أَيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ الذُّبَابَ وَالْعَنْكَبُوتَ فِي كِتَابِهِ وَضَرَبَ بِهَا الْمَثَلَ ضَحِكَ الْيَهُودُ وَقَالُوا مَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي الْآيَةَ.

وَالْوَجْهُ أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَنُبَيِّنَ مَا انْطَوَتَا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَى يَهُودِ يَثْرِبَ فِي التَّشَاوُرِ فِي شَأْنِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُمْ صُوَرًا مِنَ الْكَيْدِ وَالتَّشْغِيبِ فَيَكُونُ قَدْ تَظَاهَرَ الْفَرِيقَانِ عَلَى الطَّعْنِ فِي بَلَاغَةِ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْعَنْكَبُوتِ وَالذُّبَابِ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَمْثِيلَ الْمُنَافِقِينَ بِالَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وَكَانَ مُعْظَمُهُمْ مِنَ الْيَهُودِ هَاجَتْ أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هَذِهِ الْمَطَاعِنَ فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَوَضَحَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.

فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ قَالَهُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْبَلَاغَةِ، أَوْ قَدْ قَالُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِفُنُونِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مُكَابِرَةً وَتَجَاهُلًا. وَكَوْنُ الْقَائِلِينَ هُمُ الْيَهُودَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَوْنِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْمُعَانِدِينَ فِيهَا هُمُ الْيَهُودُ، وَلِأَنَّهُ الْأَوْفَقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْيَهُودِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ شَاعَ بَيْنَهُمُ التَّشَاؤُمُ وَالْغُلُوُّ فِي الْحَذَرِ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى اشْتَهَرُوا بِاسْتِعْمَالِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِالشَّتْمِ وَالذَّمِّ كَقَوْلِهِم راعِنا [الْبَقَرَة: ١٠٤] ، قَالَ تَعَالَى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [الْبَقَرَة: ٥٩] كَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ فِي «الصَّحِيحِ» وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ.

وَإِمَّا أَنْ يكون قَائِله الْمُشْركُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ فِي كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ كَقَوْلِهِمْ أَجْرَأُ مِنْ ذُبَابَةٍ، وَأَسْمَعُ مِنْ قُرَادٍ، وَأَطْيَشُ مِنْ فَرَاشَةٍ، وَأَضْعَفُ مِنْ بَعُوضَةٍ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَدَلُّ، عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا