وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، وَعُرْوَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولَ مَرِضَ فَسَأَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ فَفَعَلَ. فَنَزَلَتْ. فَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَخَّصَ لِي فَسَأَزِيدُ عَلَى السَبْعِينَ فَنَزَلَتْ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
[المُنَافِقُونَ: ٦] .
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ بِآيَةِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَفِيهَا أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ فِي حَقِّهِمْ. تَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ غَيْرِ الْمُؤَكَّدِ وَبَعَثَتْهُ رَحْمَتُهُ بِالنَّاسِ وَحِرْصُهُ عَلَى هُدَاهُمْ وَتَكَدُّرُهُ مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُنَافِقِينَ اسْتِغْفَارًا مُكَرَّرًا مُؤَكَّدًا عَسَى أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وَيَزُولَ عَنْهُمْ غَضَبُهُ تَعَالَى فَيَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ الْحَقِّ. بِمَا أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ لِأَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ قَدْ يَجُرُّ إِلَى تَعَلُّقِ هَدْيِهِ بِقُلُوبِهِمْ بِأَقَلِّ سَبَبٍ، فَيَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَأْيِيسًا مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، أَيْ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْهُمْ تَأْيِيسًا لَهُمْ وَلِمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِمَّنِ اطَّلَعَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ فَاغْتَبَطَ بِحَالِهِمْ بِأَنَّهُمُ انْتَفَعُوا بِصُحْبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَالْآيَةُ تَأْيِيسٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الْمُرَادُ مِنْهَا لَازِمُهَا وَهُوَ عَدَمُ الْحَذَرِ مِنَ الْأَمْرِ الْمُبَاحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إِفَادَةُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الَّتِي تَرُدُّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لِإِفَادَتِهَا كَثِيرًا، وَعَدَّ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي مَعَانِي صِيغَةِ الْأَمْرِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا [الطّور: ١٦] .
فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَمَوْقِعُهُ غَرِيبٌ وَلَمْ يُعْنَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُعْرِبُونَ بِبَيَانِهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ لَا مَجْزُومًا يَجْعَلُهُ فِي صُورَةِ النَّهْيِ، وَمَعْنَى النَّهْيِ لَا يَسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَا يُسْتَعْمَلُ النَّهْيُ فِي مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ مَعْنًى يُعَادِلُ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ الَّتِي اسْتُعْمِلَ فِيهَا الْأَمْرُ. وَلِذَلِكَ لَمْ نَرَ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَذْكُرُونَ التَّسْوِيَةَ فِي مَعَانِي صِيغَةِ النَّهْيِ كَمَا ذَكَرُوهَا فِي مَعَانِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَا نَافِيَةً وَيَكُونَ جَزْمُ الْفِعْلِ بَعْدَهَا لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ فَإِنَّ فِعْلَ الْأَمْرِ مَجْزُومٌ بِلَامِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَاخْتَارَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute