للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِالتَّوَحُّشِ وَأَكْثَرَ غِلْظَةً فِي الْمُعَامَلَةِ وَأَضِيعَ لِلتُّرَاثِ الْعِلْمِيِّ وَالْخُلُقِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ لِأَبِي ذَرٍّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى سُكْنَى الرَّبَذَةِ: تَعَهَّدِ الْمَدِينَةَ كَيْلَا تَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا.

فَأَمَّا فِي الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُحْمَدُ فِيهَا الْخُشُونَةُ وَالْغِلْظَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِالْعَظَائِمِ مِثْلُ الشَّجَاعَةِ وَالصَّرَاحَةِ وَإِبَاءِ الضَّيْمِ وَالْكَرَمِ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَقْوَى فِي الْأَعْرَابِ بِالْجِبِلَّةِ، وَلِذَلِكَ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْخَيْرِ إِذَا اعْتَقَدُوهُ وَآمَنُوا بِهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَدُّ وأَجْدَرُ مَسْلُوبَيِ الْمُفَاضَلَةِ مُسْتَعْمَلَيْنِ لِقُوَّةِ الْوَصْفَيْنِ فِي الْمَوْصُوفِينَ بِهِمَا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣] . فَالْمَعْنَى أَنَّ كُفْرَهُمْ شَدِيدُ التَّمَكُّنِ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَنِفَاقَهُمْ كَذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ أَنَّهُمْ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا مِنْ كُفَّارِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُنَافِقِيهَا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ كُفْراً وَنِفاقاً مَنْصُوبَانِ عَلَى التَّمْيِيزِ لِبَيَانِ الْإِبْهَامِ الَّذِي فِي وَصْفِ أَشَدُّ. سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِيَتَمَكَّنَ الْمَعْنَى أَكْمَلَ تَمَكُّنٍ.

وَالْأَجْدَرُ: الْأَحَقُّ. وَالْجَدَارَةُ: الْأَوْلَوِيَّةُ. وَإِنَّمَا كَانُوا أَجْدَرَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُمْ يَبْعُدُونَ عَنْ مَجَالِسِ التَّذْكِيرِ وَمَنَازِلِ الْوَحْيِ، وَلِقِلَّةِ مُخَالَطَتِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُذِفَتِ الْبَاءُ الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ الْجَدَارَةِ عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةِ.

وَالْحُدُودُ: الْمَقَادِيرُ وَالْفَوَاصِلُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَوَاصِلَ الْأَحْكَامِ وَضَوَابِطَ تَمْيِيزِ مُتَشَابِهِهَا.

وَفِي هَذَا الْوَصْفِ يَظْهَرُ تَفَاوُتُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّحْقِيقِ أَوْ بِالْحِكْمَةِ الْمُفَسَّرَةِ بِمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ (عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ وَالْخَفِيَّاتِ.