وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ. ومَرَدُوا وَخبر عَنْهُ، أَوْ تُجْعَلُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً مُؤْذِنَةً بِمُبَعَّضٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَاعَةٌ مَرَدُوا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٦] .
وَمَعْنَى مَرَدَ عَلَى الْأَمْرِ مَرِنَ عَلَيْهِ وَدَرِبَ بِهِ، وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ الْمَارِدُ، أَيْ فِي الشَّيْطَنَةِ.
وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَلَّ الْبَاقِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ الِاسْتِيثَارَ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَطْلَعَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ بِوُجُودِهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ:
لَا تَعْلَمُهُمْ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
[التَّوْبَة: ٩٤] ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلْمِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِمْ كَافٍ. وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اسْتِينَافٌ بَيَانِيٌّ لِلْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ أَثَرِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَلِّمُهُمْ. فَأُعْلِمَ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَلَا يُفْلِتُهُمْ مِنْهُ عَدَمُ عِلْمِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِهِمْ. وَالْعَذَابُ الْمَوْصُوفُ بِمَرَّتَيْنِ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ تَحَيَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ. وَحَمَلُوهُ كُلُّهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَدَدِ.
وَذَكَرُوا وُجُوهًا لَا يَنْشَرِحُ لَهَا الصَّدْرُ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْعَدَدَ مُسْتَعْمَلٌ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ التَّكْرِيرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤] أَيْ تَأَمَّلْ تَأَمُّلًا مُتَكَرِّرًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَاسْمُ التَّثْنِيَةِ نَائِبٌ مَنَابَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ.
وَالْمَعْنَى: سَنُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا مُتَكَرِّرًا مُضَاعَفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠] . وَهَذَا التَّكَرُّرُ تَخْتَلِفُ أَعَدَادُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَافِ أَزْمَانِ عَذَابِهِمْ.
وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَة.