انْتِفَاءِ أَهَمِّ الْغَرَضَيْنِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَهُوَ حُصُولُ الْغُفْرَانِ، فَبَقِيَ لِلتَّخْيِيرِ غَرَضٌ آخَرُ وَهُوَ حُسْنُ الْقَوْلِ لِمَنْ يَرَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلَاطَفَةِ لِذَاتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، مِثْلُ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَرَادَ اللَّهُ نَسْخَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ دَرَجَ فِي تَلَقِّيهِ عَلَى عَادَةِ التَّشْرِيعِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. وَلَعَلَّ الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُبْقِيَ التَّخْيِيرُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ قَدْ ضَعُفَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَرُجِّحَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ بِانْقِرَاضِ مَنْ هُمْ أَهْلٌ لِحُسْنِ الْقَوْلِ وَغَلَبَةِ الدَّهْمَاءِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ فَيُصْبِحُوا فَرِحِينَ بِأَنَّهُمْ رَبِحُوا الصَّفْقَتَيْنِ وَأَرْضَوُا الْفَرِيقَيْنِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا تَخْيِيرَ النَّبِيءِ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ ذَهَبُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِأَهْلِيهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ طَمَعًا فِي إِيصَالِ النَّفْعِ إِلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَصْبَحَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى اعْتِقَادِ مُسَاوَاةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَغْفِرَةِ فَيَنْتَفِي التَّفَاضُلُ الْبَاعِثُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي الْإِيمَانِ، فَنَهَى اللَّهُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعًا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ رَخَّصَهُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِهِ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٨٠] .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
[التَّوْبَة: ١١٤] . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : هُوَ أَضْعَفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ
فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ، أَوْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سُؤَالِهِ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأُمِّهِ آمِنَةَ حِينَ زَارَ قَبْرَهَا بِالْأَبْوَاءِ. فَهُمَا خَبَرَانِ وَاهِيَانِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ.
وَجَاءَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْكَوْنِ مَعَ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالَغَةً فِي التَّنَزُّهِ عَنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ فِي آخِرِ سُورَةِ الْعُقُودِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute