بَرَاءَةٌ عَقِبَهَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الْكُفْرِ الْمُجَاوِرَةِ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ كَلَّمَا اسْتَقَرَّ بَلَدٌ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ تُجَاوِرُهُ بِلَادُ كُفْرٍ كَانَ حَقًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَزْوُ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ. وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ الْخُلَفَاءُ بِفَتْحِ الشَّامِ ثُمَّ الْعِرَاقِ ثُمَّ فَارِسَ ثُمَّ انْثَنَوْا إِلَى مِصْرَ ثُمَّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ ثُمَّ الْأَنْدَلُسِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَكْمِلَةً لِلْأَمْرِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي ذُيُولِ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَفِي تَوْجِيهِ الْخِطَابِ لِلَّذِينَ آمَنُوا دُونَ النَّبِيءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ النَّبِيءَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَغْزُو بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَجَلَهُ الشَّرِيفَ قَدِ اقْتَرَبَ. وَلَعَلَّ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِيمَاءً إِلَى التَّسْلِيَةِ عَلَى فَقْدِ نَبِيِّهِمْ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ كَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمرَان: ١٤٤] .
والغلظة بِكَسْرِ الْغَيْنِ: الشِّدَّةُ الْحِسِّيَّةُ وَالْخُشُونَةُ، وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا لِلْمُعَامَلَةِ الضَّارَّةِ، كَقَوْلِهِ: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٧٣] . قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَذَلِكَ يَجْمَعُ الْجُرْأَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَالْعُنْفَ فِي الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ. اه.
قُلْتُ: وَالْمَقْصِدُ مِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ حَتَّى يَخْشَوْا عَاقِبَةَ التَّصَدِّي لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحُصُولِ مَا يَجِدُهُ الْكَافِرُونَ مِنْ غِلْظَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَمْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونُوا أَشِدَّاءَ فِي قِتَالِهِمْ. وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالشِّدَّةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ لَهُمْ بِأَنْ يَجِدَ الْكُفَّارُ فِيهِمُ الشِّدَّةَ. وَذَلِكَ الْوِجْدَانُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْغِلْظَةُ بِحَيْثُ تَظْهَرُ وَتَنَالُ الْعَدُوَّ فَيُحِسُّ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها [طه: ١٦] . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةُ لِمَا عَلَيْهِ الْعَدُوُّ مِنَ الْقُوَّةِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكُفَّارِ هُنَا هُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَأَنْصَارُهُمُ الرُّومُ، وَهُمْ أَصْحَابُ عَدَدٍ وَعُدَدٍ فَلَا يَجِدُونَ الشِّدَّةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ شِدَّةً عَظِيمَةً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute