وَالْحَسْبُ: الْكَافِي، أَيْ كَافِيكَ شَرَّ إِعْرَاضِهِمْ لِأَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا بَعْدَ هَذَا فَقَدَ أَعْرَضُوا عَنْ حَسَدٍ وَحَنَقٍ. وَتِلْكَ حَالَةُ مَظِنَّةِ السَّعْيِ فِي الْكَيْدِ وَالْأَذَى.
وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَوْلًا نَاشِئًا عَنْ عَقْدِ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ وَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ، لِأَنَّ الْقَوْلَ يُؤَكِّدُ الْمَعْلُومَ وَيُرَسِّخُهُ فِي نَفْسِ الْعَالِمِ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ إِبْلَاغًا لِلْمُعْرِضِينَ عَنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ كَافِيهِ إِيَّاهُمْ.
وَالتَّوَكُّلُ: التَّفْوِيضُ. وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي وَكَلَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُفِيدُ التَّنْوِيهَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُبَارَكَةِ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِعَيْنِهَا وَلَمْ يُؤْمَرْ بِمُجَرَّدِ التَّوَكُّلِ كَمَا أُمِرَ فِي قَوْلِهِ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل:
٧٩] . وَلَا أُخْبِرَ بِأَنَّ اللَّهَ حَسْبُهُ مُجَرَّدَ إِخْبَارٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٦٢] .
وَجُمْلَةُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلثَّنَاءِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَهِيَ ثَنَاءٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
وَعُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةُ: وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لِلثَّنَاءِ بِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ رَبًّا لِلْعَرْشِ الْعَظِيمِ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِيرٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ الْعَرْشَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْعَظِيمِ، فَالْعَظِيمُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، فَهُوَ مَجْرُورٌ.
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ إِشْعَارٌ بِالْإِيدَاعِ وَالْإِعْذَارِ لِلنَّاسِ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى الْمُبَادَرَةِ بِاغْتِنَامِ وُجُودِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لِيَتَشَرَّفُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ وَيَقْتَبِسُونَ مِنْ أَنْوَارِ هَدْيِهِ، لِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِمُشَاهَدَتِهِ وَالتَّلَقِّيَ مِنْهُ أَرْجَى لِحُصُولِ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالِانْتِفَاعِ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَانِ لِتَحْصِيلِ وَافِرِ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يُحْصَلُ مِثْلُهُ فِي أَضْعَافِ ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَفِيهِمَا أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى اقْتِرَابِ أَجْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ جاءَكُمْ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ زَمَنٌ طَوِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَضِيَ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَارِدٍ قُفُولًا، وَلِكُلِّ طَالِعٍ أُفُولًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُمَا أَحْدَثُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute