وَقَدْ جَاءَ نَظْمُ الْآيَةِ عَلَى إِيجَازٍ مُحْكَمٍ بَدِيعٍ، فَذُكِرَ فِي جَانِبِ الشَّرِّ يُعَجِّلُ الدَّالُّ عَلَى أَصْلِ جِنْسِ التَّعْجِيلِ وَلَوْ بِأَقَلِّ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَاهُ، وَعُبِّرَ عَنْ تَعْجِيلِ اللَّهِ الْخَيْرَ لَهُمْ بِلَفْظِ اسْتِعْجالَهُمْ الدَّالِّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْجِيلِ بِمَا تفيده زِيَاد السِّينِ وَالتَّاءِ لِغَيْرِ الطَّلَبِ إِذْ لَا يَظْهَرُ الطَّلَبُ هُنَا، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمُ: اسْتَأْخَرَ وَاسْتَقْدَمَ وَاسْتَجْلَبَ وَاسْتَقَامَ وَاسْتَبَانَ وَاسْتَجَابَ وَاسْتَمْتَعَ وَاسْتَكْبَرَ وَاسْتَخْفَى وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح:
٧] . وَمَعْنَاهُ: تَعَجُّلَهُمُ الْخَيْرَ، كَمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْخَيْرِ مِنْ لَدُنْهِ.
فَلَيْسَ الِاسْتِعْجَالُ هُنَا بِمَعْنَى طَلَبِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَسْأَلُوا تَعْجِيلَ الْخَيْرِ وَلَا سَأَلُوهُ فَحَصَلَ، بَلْ هُوَ بِمَعْنى التَّعْجِيل الْكَثِيرِ، كَمَا فِي قَوْلِ سُلْمِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ:
وَإِذَا الْعَذَارَى بِالدُّخَانِ تَقَنَّعَتْ ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ الْقُدُورِ فَمَلَّتِ
(أَيْ تَعَجَّلَتْ) ، وَهُوَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ، كَمَا فِي الْبَيْتِ وَكَمَا
فِي الْحَدِيثِ «فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ»
. وَانْتَصَبَ اسْتِعْجالَهُمْ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعَجِّلُ.
وَالْمَعْنَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرّ كَمَا يَجْعَل لَهُمُ الْخَيْرَ كَثِيرًا، فَقَوْلُهُ:
اسْتِعْجالَهُمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لَا إِلَى فَاعِلِهِ، وَفَاعِلُ الِاسْتِعْجَالِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْخَيْرِ لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] . وَأَصْلُهُ: اسْتِعْجَالَهُمُ الْخَيْرَ، فَدَلَّتِ الْمُبَالَغَةُ بِالسِّينِ وَالتَّاءِ وَتَأْكِيدُ اللُّصُوقِ عَلَى الِامْتِنَانِ بِأَنَّ الْخَيْرَ لَهُمْ كَثِيرٌ وَمَكِينٌ. وَقَدْ كَثُرَ اقْتِرَانُ مَفْعُولِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ بِهَذِهِ الْبَاءِ وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِ فِي مَوَاقِعِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَسَيَجِيءُ فِي النَّحْلِ.
وَقَدْ جُعِلَ جَوَابُ (لَوْ) قَوْلَهُ: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، وَشَأْنُ جَوَابِ (لَوْ) أَنْ يَكُونَ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ، أَيْ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِآجَالِ انْقِرَاضِهِمْ مِيقَاتًا مُعَيَّنًا مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الْحجر: ٥] .