قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ صَرِيحِ اقْتِرَاحِهِمْ، وَثَانِيهِمَا: مَا لَقَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ [يُونُس: ١٦] وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ لَازِمِ كَلَامِهِمْ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ تَسْمِيَةُ أُنَاسٍ مِمَّنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَهُمْ خَمْسَةٌ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، وَالْعَاصُ بْنُ عَامِرٍ، قَالُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتِ بِقُرْآنٍ لَيْسَ فِيهِ تَرْكُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ وَهُبَلَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُهَا.
وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ كَلَامًا جَامِعًا قَضَاءً لِحَقِّ الْإِيجَازِ الْبَدِيعِ، وَتَعْوِيلًا عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنَ الْجَوَابِ، فَأَحَسُّوا بِامْتِنَاعِ تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا جَوَابٌ كَافٍ، لِأَنَّ التَّبْدِيلَ يَشْمَلُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِهِ وَتَبْدِيلَ بَعْضِ تَرَاكِيبِهِ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّبْدِيلُ الَّذِي هُوَ تَغْيِيرُ كَلِمَاتٍ مِنْهُ وَأَغْرَاضٍ مُمْتَنِعًا كَانَ إِبْطَالُ جَمِيعِهِ وَالْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ أَجْدَرَ بِالِامْتِنَاعِ.
وَقَدْ جَاءَ الْجَوَابُ بِأَبْلَغِ صِيَغِ النَّفْيِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أَيْ مَا يَكُونُ التَّبْدِيلُ مِلْكًا بِيَدِي.
وتِلْقاءِ صِيغَةُ مَصْدَرٍ عَلَى وَزْنِ التِّفْعَالِ. وَقِيَاسُ وَزْنِ التَّفْعَالِ الشَّائِعِ هُوَ فَتْحُ التَّاءِ وَقَدْ شَذَّ عَنْ ذَلِكَ تِلْقَاءٌ، وَتِبْيَانٌ، وَتِمْثَالٌ، بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالْبَيَانِ وَالْمُثُولِ فَجَاءَتْ بِكَسْرِ التَّاءِ لَا رَابِعَ لَهَا، ثُمَّ أُطْلِقَ التِّلْقَاءُ عَلَى جِهَةِ التَّلَاقِي ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ [الْقَصَص: ٢٢] . فَمَعْنَى مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي مِنْ جِهَةِ نَفْسِي.
وَهَذَا الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ مُؤَكِّدَةً لِغَيْرِهَا إِذِ التَّبْدِيلُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ فِعْلِ الْمُبْدِلِ فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْحَالُ لِلتَّقْيِيدِ إِذْ لَا يَجُوزُ فَرْضُ أَنْ يُبَدَّلَ مِنْ تِلْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى التَّبْدِيلَ الَّذِي يَرُومُونَهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَا مُتَصَرِّفٌ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أَيْ مَا أَتَّبِعُ إِلَّا الْوَحْيَ وَلَيْسَ لِي تَصَرُّفٌ بِتَغْيِيرٍ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَاتِّبَاعُ الْوَحْيِ: تَبْلِيغُ الْحَاصِلِ بِهِ، وَهُوَ الْمُوصَى بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute