وَطَلَبًا لِصَلَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ عَدَمُ قَبُولِهِمْ رَحْمَتَهُ وَهِدَايَتَهُ. وَلِذَلِكَ أَتَى فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمُ الْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى لَفْظِ الرَّبِّ الْمُضَافِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
مِنْ رَبِّهِ إِيمَاءً إِلَى الرُّبُوبِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالتَّعَلُّقِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ رُبُوبِيَّةُ الْمُصْطَفِي (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ) لِلْمُصْطَفَى (بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ) مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ الْخَلْقِ الْمُقْتَضِيَةِ الْغَضَبَ لِغَضَبِهِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ مِثْلُ غَضَبِ الْخَلَائِقِ يَسْتَدْعِي الْإِسْرَاعَ إِلَى الِانْتِقَامِ وَمَا عَلِمُوا أَسْرَارَ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْحُكْمِ الْإِلَهِيِّ وَالْعِلْمِ الْأَعْلَى.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يُجِيبَ عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ بِمَا هُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُرْشِدَةُ وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَى
مِنْ مَدَارِكِهِمْ جَوَابًا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، فَجَاءَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ هُنَا دُونَ بَعْضِ نَظَائِرِهِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَعْقِيبِ كَلَامِهِمْ بِالْجَوَابِ شَأْنَ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ حَالِهِ الْمُتَثَبِّتِ فِي أَمْرِهِ.
وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْ حَوَاسِّ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يَتَكَوَّنُ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. وَتَفْسِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٠٩] .
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ، أَيِ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ. وَجَاءَ الْكَلَامُ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ فِي مُكْنَةِ الرَّسُولِ الْحَقِّ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَسْأَلُهُ قَوْمُهُ مِنَ الْخَوَارِقِ، فَجَعَلُوا عَدَمَ وُقُوعِ مُقْتَرَحِهِمْ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ مِنَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي إِيقَاعِ مَا سَأَلُوهُ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بِسُؤَالِهِمْ إِلَى الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِفْحَامِ.
وَجُمْلَةُ: فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أَيْ لَيْسَ دَأْبِي وَدَأْبُكُمْ إِلَّا انْتِظَارَ مَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ، كَقَوْلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [هود: ٣٣] .
وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ لَهُمْ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ لَا يَتَرَقَّبُونَ مِنْهُ إِلَّا شَرًّا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الْأَنْعَام:
٨] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute