وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَمْثِلَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ كُلِّهَا تَبَعًا «لِلْكَشَّافِ» بِنَاءً عَلَى جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ وَجَعْلِ ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ لَهُمْ أَيْضًا، وَمَا نَحَوْتُهُ أَنَا أَلْيَقُ.
وَابْتُدِئَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ مِنْ آخِرِ ذِكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ النِّعْمَةَ شَمِلَتْهُمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَجِيءَ الْعَاصِفَةِ فَجْأَةً فِي حَالِ الْفَرَحِ مُرَادٌ مِنْهُ ابْتِلَاؤُهُمْ وَتَخْوِيفُهُمْ. فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ.
وَالسَّيْرُ فِي الْبَرِّ مَعْرُوفٌ لِلْعَرَبِ. وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي الْبَحْرِ. كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ إِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ. وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَقَدْ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ لِذَلِكَ.
وَقَدْ وَصَفَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ السُّفُنَ وَسَيْرَهَا، وَذَكَرَهَا عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ، وَالنَّابِغَةُ فِي دَالِيَّتِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُسَيِّرُكُمْ- بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ بَعْدَهَا رَاءٌ- مِنَ السَّيْرِ، أَيْ يَجْعَلُكُمْ تَسِيرُونَ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَنْشُرُكُمْ بِتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا نُونٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ ثُمَّ رَاءٌ- مِنَ النَّشْرِ، وَهُوَ التَّفْرِيقُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الرّوم: ٢٠] وَقَوْلِهِ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الْجُمُعَة: ١٠] .
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ وَأَبِي الزَّغَلِ: كَانُوا (أَيْ أهل الْكُوفَة) يقرأون يَنْشُرُكُمْ فَنَظَرُوا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَوَجَدُوهَا يُسَيِّرُكُمْ (أَيْ بِتَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ) فَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَهَا كَذَلِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، أَيْ أَمَرَ بكتبها فِي مصاحب أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلتَّسْيِيرِ. وَهِيَ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ أُعْقِبَتْ بِحَرْفِ الْمُفَاجَأَةِ وَجَوَابِهِ، وَالْجُمْلَةُ وَالْغَايَةُ هِيَ مُفَادُ جَوَابِ إِذا وَهُوَ قَوْلُهُ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، فَمَجِيءُ الرِّيحِ الْعَاصِفِ هُوَ غَايَةُ التَّسْيِيرِ الْهَنِيءِ الْمُنْعَمِ بِهِ، إِذْ حِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ التَّسْيِيرُ كَارِثَةً وَمُصِيبَةً.
وَالْفُلْكُ: اسْمٌ لِمَرْكَبِ الْبَحْرِ، وَاسْمُ جَمْعٍ لَهُ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] . وَهُوَ هَنَا مُرَادٌ بِهِ الْجَمْعُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute