للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُطْلَقْ قَطُّ عَلَى غَيْرِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ إِلَّا مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِ شَاعِرٍ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ التَّعْرِيفِ بِاللَّامِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ هُوَ وَلَا شَارِحُوهُ:

النَّاسُ أَرْضٌ بِكُلِّ أَرْضٍ ... وَأَنْتِ مِنْ فَوْقِهِمْ سَمَاءْ

بِخِلَافِ السَّمَاءِ أُطْلِقَتْ عَلَى كُلِّ مَا عَلَا فَأَظَلَّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ شَيْءٌ مُشَاهَدٌ وَالسَّمَاءُ لَا يُتَعَقَّلُ إِلَّا بِكَوْنِهِ شَيْئًا مُرْتَفِعًا. الثَّانِي عَلَى تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ السَّمَاءَ لَمْ تُطْلَقْ عَلَى الْجِهَةِ الْعُلْيَا حَتَّى يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْأَرْضِ عَلَى الْجِهَةِ السُّفْلَى بَلْ إِنَّمَا تُطْلَقُ السَّمَاءُ عَلَى شَيْءٍ عَالٍ لَا عَلَى نَفْسِ الْجِهَةِ.

وَجُمْلَةُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ سِيقَ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَكَّ عِنْدِهِمْ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ مَا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ بِذَلِكَ فَسِيقَ لَهُمُ الْخَبَرُ الْمَحْصُورُ لِأَنَّهُمْ فِي كُفْرِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ عَنْ شُكْرِهِ وَالنَّظَرِ فِي دَعْوَتِهِ وَعِبَادَتِهِ كَحَالِ مَنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الْحَج: ٧٣] فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا كَانُوا يُثْبِتُونَ لِأَصْنَامِهِمْ قُدْرَةً عَلَى الْخَلْقِ وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ وَعَبَدُوهَا وَأَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ حَقَّ عِبَادَتِهِ وَنَسُوا الْخَلْقَ الْمُلْتَصِقَ بِهِمْ وَبِمَا حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا أَرَاهُ مُوَافِقًا لِلْبَلَاغَةِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا وَمَا فِي دَاخِلِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خَلَقَهُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِنَا بِهَا وَبِمَا فِيهَا فِي مُخْتَلَفِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَأَوْجَزَ الْكَلَامَ إِيجَازًا بَدِيعًا بِإِقْحَامِ قَوْلِهِ: لَكُمْ فَأَغْنَى عَنْ جُمْلَةٍ كَامِلَةٍ فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ إِظْهَارِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِظْهَارِ عَظِيمِ الْمِنَّةِ عَلَى الْبَشَرِ وَإِظْهَارِ

عَظِيمِ مَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ أُولَئِكَ يَقْتَضِي اقْتِلَاعَ الْكُفْرِ مِنْ نُفُوسِهِمْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ:

الْأُولَى: أَنَّ لَامَ التَّعْلِيلِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ كَانَ لِأَجْلِ النَّاسِ وَفِي هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْخَلْقِ وَبَيَانٌ لِثَمَرَتِهِ وَفَائِدَتِهِ فَتُثَارُ عَنْهُ مَسْأَلَةُ تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَلُّقِهَا بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ اخْتِلَافًا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَعَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَأَنَّ جَمِيعِهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى حِكَمٍ وَمَصَالِحَ وَأَنَّ تِلْكَ الْحِكَمَ هِيَ ثَمَرَاتٌ لِأَفْعَالِهِ تَعَالَى نَاشِئَةٌ عَنْ حُصُولِ الْفِعْلِ فَهِيَ لِأَجَلُُُُِ