وَمَعْنَى: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الْمُتَارَكَةُ. وَهُوَ مِمَّا أُجْرِي مُجْرَى الْمَثَلِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ عَلَى الِاخْتِصَارِ وَوَفْرَةِ الْمَعْنَى، فَأُفِيدَ فِيهِ مَعْنَى الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَبِالتَّعْبِيرِ بِالْإِضَافَةِ بِ عَمَلِي وعَمَلُكُمْ، وَلَمْ يُعَبَّرْ بِنَحْوِ لِي مَا أَعْمَلُ وَلَكُمْ مَا تَعْمَلُونَ، كَمَا عُبِّرَ بِهِ بَعْدُ.
وَالْبَرِيءُ: الْخَلِيُّ عَنِ التَّلَبُّسِ بِشَيْءٍ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِ. وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ بَرَّأَ الْمُضَاعَفِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَفِعْلُ بَرَّأَ مُشْتَقّ من برىء- بِكَسْرِ الرَّاءِ- مِنْ كَذَا، إِذَا خَلَتْ عَنْهُ تَبِعَتُهُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِهِ.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ لَا يُرَادُ بِهِ صَرِيحُهُ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْمُبَاعَدَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمُكَنَّى بِهِ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء:
٢١٦] ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْعَمَلِ مَصْدَرًا كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ فعلا صلَة لما الْمَوْصُولَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ يَحْدُثُ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمَاضِي فَلِكَوْنِهِ قَدِ انْقَضَى لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِذِكْرِ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ. وَلَوْ عُبِّرَ بِالْعَمَلِ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ عَمَلٌ خَاصٌّ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ لَا يَعُمُّ، وَلِتَجَنُّبِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ فِي الْكَلَامِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْبَيَانِ مِنْ تَمَامِ الْمُبَيَّنِ، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَنْسَبُ بِسَلَاسَةِ النَّظْمِ، لِأَنَّ فِي (مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا أَعْمَلُ مِنَ الْمَدِّ مَا يَجْعَلُهُ أَسْعَدَ بِمَدِّ النَّفَسِ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَالتَّهْيِئَةِ لِلْوَقْفِ عَلَى قَوْلِهِ: مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَلِمَا فِي تَعْمَلُونَ مِنَ الْمَدِّ أَيْضًا، وَلِأَنَّهُ يُرَاعِي الْفَاصِلَةَ.
وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْفَصَاحَةِ الْمُتَعَارَفَةِ بَين الفصحاء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute