وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةِ إِبْهَامِ الْحَاصِلِ مِنَ الْحَالَيْنِ لِإِيقَاعِ النَّاسِ بَين الْخَوْف والرجاء وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ أُوعِدُوا بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ. فَالْمَعْنَى إِنْ وَقَعَ عَذَابُ الدُّنْيَا بِهِمْ فَرَأَيْتَهُ أَنْتَ أَوْ لَمْ يَقَعْ فَتَوَفَّاكَ اللَّهُ فَمَصِيرُهُمْ إِلَيْنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَمَضْمُونُ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمٌ لِمَضْمُونِ نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ.
وَالْجُمْلَتَانِ مَعًا جُمْلَتَا شَرْطٍ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ.
وَلَمَّا جُعِلَ جَوَابُ الشَّرْطَيْنِ إِرْجَاعَهُمْ إِلَى اللَّهِ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْعِقَابِ الْآجِلِ، تَعَيَّنَ أَنَّ التَّقْسِيمَ الْوَاقِعَ فِي الشَّرْطِ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لَهُمَا مُنَاسَبَةٌ بِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْإِرْجَاعِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، وَهُمَا حَالَةُ التَّعْجِيلِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَحَالَةُ تَأْخِيرِ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَة. وَأما إراءة الرَّسُولِ تَعْذِيبَهُمْ وَتُوَفِّيهِ بِدُونِ إِرَائَتِهِ فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُمَا بِالْإِرْجَاعِ إِلَى اللَّهِ عَلَى كِلْتَيْهِمَا إِلَّا بِاعْتِبَارِ مُقَارَنَةِ إِحْدَاهُمَا لِحَالَةِ التَّعْجِيلِ وَمُنَاسَبَةِ الْأُخْرَى لِحَالَةِ التَّأْخِيرِ.
وَإِنَّمَا كُنِّيَ عَنِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ يُرِيد اللَّهُ الرَّسُولَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ حَالَةَ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَا يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهَا إِلَّا الِانْتِصَافَ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يُرِيَهُ عَذَابَ مُعَانَدِيهِ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ ضِدُّ التَّعْجِيلِ فَكُنِّيَ بِتَوَفِّيهِ عَنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ بَلْ عَنْ تَأْخِيرِهِ إِذْ كَانَتْ حِكْمَةُ التَّعْجِيلِ هِيَ الِانْتِصَافَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا جَعَلَ مَضْمُونَ جُمْلَةِ: نَتَوَفَّيَنَّكَ قَسِيمًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: نُرِيَنَّكَ تَعَيَّنَ أَنَّ إِرَاءَتَهُ مَا أُوعِدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ جَزَاءٌ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَذَاهُمْ لَهُ انْتِصَارًا لَهُ حَتَّى يَكُونَ أَمْرُهُ جَارِيًا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُرْسَلِينَ، كَمَا قَالَ نُوحٌ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ
[الْمُؤْمِنُونَ: ٢٦] وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يُونُس: ٤٧] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨] . وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِمَا لَقُوا مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute