لَمَّا أَنْكَرُوا وُجُوبَ فِعْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ أَوْرَدَ عَلَيْهِمُ الْمُعْتَزِلَةُ أَوْ قَدَّرُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يُورَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلَّا لِغَرَضٍ وَحِكْمَةٍ وَلَا تَكُونُ الْأَغْرَاضُ إِلَّا الْمَصَالِحَ فَالْتَزَمُوا أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُنَاطُ بِالْأَغْرَاضِ وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهَا بالعلل وينبىء عَنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَمَّا ذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ذَكَرُوا فِي أَدِلَّتِهِمُ الْإِحْسَانَ لِلْغَيْرِ وَرَعْيَ الْمَصْلَحَةِ.
وَهُنَالِكَ سَبَبٌ آخَرُ لِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ التَّنَزُّهُ عَنْ وَصْفِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يُوهِمُ الْمَنْفَعَةَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِأَفْعَالِهِ وَلِأَنَّ الْغَيْرَ قَدْ لَا يَكُونُ فِعْلُ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَنْفَعَةً.
هَذَا وَقَدْ نَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ» عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَقْوَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» فَقَالَ: «هَذَا هُوَ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ خِلَافٌ وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَمُعَلَّلَةٌ» .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَخَذُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ الْأَشْيَاءِ فِيمَا يُرَادُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِهَا لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقًا لِأَجْلِنَا وَامْتَنَّ بِذَلِكَ عَلَيْنَا وَبِذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَصَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَنُسِبَ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمُ الْكَرْخِيُّ وَنُسِبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي نَقْلِ ابْنِ عَرَفَةَ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْوَقْفُ وَلَمْ يَرَوُا الْآيَةَ دَلِيلًا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِهِ» : «إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ» إِلَخْ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّهُ
خُلِقَ لِأَجْلِنَا إِلَّا أَنَّ خَلْقَهُ لِأَجْلِنَا لَا يَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ بَلْ خُلِقَ لَنَا فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى أَنَّ الِامْتِنَانَ يَصْدُقُ إِذَا كَانَ لِكُلٍّ مِنَ النَّاسِ بَعْضٌ مِمَّا فِي الْعَالَمِ بِمَعْنَى أَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لِلْمَجْمُوعِ لَا كُلُّ وَاحِدٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْضَاوِيّ لَا سِيمَا وَقَدْ خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا قَوْمًا كَافِرِينَ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ فَكَيْفَ يَعْلَمُونَ إِبَاحَةً أَوْ مَنْعًا، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ هُوَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِهَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْحَظْرُ وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِلْمُعْتَزِلَةِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ الْحَمَوِيُّ فِي «شَرْحِ كِتَابِ الْأَشْبَاهِ» لِابْنِ نُجَيْمٍ نَقْلًا عَنِ الْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute