بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَةِ الْقُرْآنِ وَشِفَائِهِ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَانْتَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ.
وافتتاح الْكَلَام ب قَدْ لِتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِلْقُرْآنِ.
وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لِلْبُلُوغِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْبُلُوغَ أَشْهَرُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُ، يُقَالُ: بَلَغَنِي خَبَرُ كَذَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: جَاءَنِي خَبَرُ كَذَا أَوْ أَتَانِي خَبَرُ كَذَا. وَإِطْلَاقُ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَزُّ.
وَالْمُرَادُ بِمَا جَاءَهُمْ وَبَلَغَهُمْ هُوَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ هِيَ أُصُولُ كَمَالِهِ وَخَصَائِصِهِ وَهِيَ: أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ، وَأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ هُدًى، وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَوْعِظَةُ: الْوَعْظُ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ نُصْحٌ وَتَحْذِيرٌ مِمَّا يَضُرُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥] . وَوَصَفَهَا بِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ كَمَالِ أَمْثَالِهَا.
وَالشِّفَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٤] .
وَحَقِيقَتُهُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَمَجَازُهُ: زَوَالُ النَّقَائِصِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَا فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالْمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْهُدَى تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] ، وَأَصْلُهُ:
الدَّالَّةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَمَجَازُهُ: بَيَانُ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْحَقَّةِ.
وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ.