تَعَالَى:
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦] ،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»
،
وَقَوْلِهِ: «كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ»
بِجَزْمِ (تَكُونُوا) وَجَزْمِ (يُولَّ) . فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِذلِكَ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَفْرَحُوا مُؤَكِّدَةٌ لِلرَّبْطِ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُرَادٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ. وَقَدْ
رُوِيَ حَدِيثٌ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ. وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ
(يَعْنِي أَنْ هَدَاكُمْ إِلَى اتِّبَاعِهِ) . وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْبَرَاءِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ فَإِنَّ الْفَضْلَ هُوَ هِدَايَةُ اللَّهِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَالرَّحْمَةَ هِيَ التَّوْفِيقُ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْقَصْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورَيْنِ. وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَمَا أُفْرِدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ ذَلِكَ خَيْرٌ مِمَّا يجمعُونَ.
ومِمَّا يَجْمَعُونَ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْوَالُ وَالْمَكَاسِبُ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمْعِ غَلَبَ فِي جَمْعِ الْمَالِ.
قَالَ تَعَالَى: الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ [الْهمزَة: ٢] . وَمِنَ الْمُعْتَادِ أَنَّ جَامِعَ الْمَالِ يَفْرَحُ بِجَمْعِهِ.
وَضَمِيرُ يَجْمَعُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ [يُونُس: ٥٧] بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضمير فَلْيَفْرَحُوا فَإِنَّ الْقَرَائِنَ تَصْرِفُ الضَّمَائِرَ الْمُتَشَابِهَةَ إِلَى مَصَارِفِهَا، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
عُدْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَحْدَقَ جَمْعُهُمْ ... بِالْمُسْلِمِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمَعُوا
ضَمِيرُ (أَحْرَزُوا) عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمُ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (جَمْعُهُمْ) .
وَضَمِيرُ (جَمَعُوا) عَائِدٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَوْلَا نَحْنُ لَغَنِمَ الْمُشْرِكُونَ مَا جَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها فِي سُورَةِ الرُّومِ [٩] .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَظْهَرُ مَعْنَى الْقَصْرِ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَهُوَ أَيْضًا الْمُنَاسِبُ لِحَالَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي ضَعْفٍ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْ ضِعَافِ الْقَوْمِ