للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ قُوبِلَ جَمْعُ الرُّسُلِ بِجَمْعِ (الْبَيِّنَاتِ) فَكَانَ صَادِقًا بِبَيِّنَاتٍ كَثِيرَةٍ مُوَزَّعَةٍ عَلَى رُسُلٍ كَثِيرِينَ، فَقَدْ يَكُونُ لِكُلِّ نَبِيءٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِثْلَ آيَةِ صَالِحٍ وَهِيَ النَّاقَةُ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لِلتَّفْرِيعِ، أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا.

وَصِيَغَ النَّفْيُ بِصِيغَةِ لَامِ الْجُحُودِ مُبَالِغَةً فِي انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ بِأَقْصَى أَحْوَالِ الِانْتِفَاءِ. حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا لِأَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ، أَيْ لَمْ يَتَزَحْزَحُوا عَنْهُ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْجُحُودِ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ حَاوَلُوا إِيمَانَهُمْ مُحَاوَلَةً مُتَكَرِّرَةً.

وَدَلَّ قَوْلُهُ: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَنَّ هُنَالِكَ تَكْذِيبًا بَادَرُوا بِهِ لِرُسُلِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ تَكْذِيبِهِمُ الَّذِي قَابَلُوا بِهِ الرُّسُلَ، لِأَنَّ التَّكْذِيبَ إِنَّمَا يَكُونُ لِخَبَرِ مخبر فَقَوله:

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ مُؤْذِنٌ بِحُصُولِ التَّكْذِيبِ فَلَمَّا كذبوهم جاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَاسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ. وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْحَذْفِ لِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الدَّعْوَةِ وَتَكَرُّرَ الْبَيِّنَاتِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَقْعٌ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ الَّذِي حَصَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا

مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْلِعَهُ كَانَ تَكْذِيبًا وَاحِدًا مَنْسِيًّا. وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ.

وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ وَقْعُ قَوْلِهِ عَقِبَهُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ قَدْ وَرَدَ عَلَيْهَا مَا لَوْ خَلَتْ عِنْدَ وُرُودِهِ عَنِ الطَّبْعِ عَلَيْهَا لَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَصِلَ بِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَالَ دُونَ تَأْثِيرِ الْبَيِّنَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ.

وَقَدْ جُعِلَ الطَّبْعُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ مَثَلًا لِكَيْفِيَّاتِ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ، أَيْ مِثْلَ هَذَا الطَّبْعِ الْعَجِيبِ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ فَتَأَمَّلُوهُ وَاعْتَبِرُوا بِهِ.