وَهُوَ مَعَ تَفَوُّقِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ قَدِ امْتَازَ بِكَوْنِهِ تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، الْمُرِيدِ إِقْرَارَ الصَّالِحِ وَإِزَالَةَ الْفَاسِدِ.
وَجَعَلَ مُوسَى وَهَارُونَ مَبْعُوثَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ طَلَبَ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ مُؤَيِّدًا وَمُعْرِبًا عَنْ مَقَاصِدَ مُوسَى فَكَانَ بِذَلِكَ مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ سُورَةُ الْقَصَصِ، فَالْمَبْعُوثُ أَصَالَةً هُوَ مُوسَى وَأَمَّا هَارُونُ فَبُعِثَ مُعِينًا لَهُ وَنَاصِرًا، لِأَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَةَ كَانَتْ أَوَّلُ رِسَالَةٍ يَصْحَبُهَا تَكْوِينُ أُمَّةٍ.
وَفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٣] ، وَعَلَى صِفَةِ إِرْسَالِ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ مِنِفْطَاحُ الثَّانِي أَحَدُ فَرَاعِنَةِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الْأُسَرِ الَّتِي مَلَكَتْ بِلَادَ الْقِبْطِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ خَاصَةُ النَّاسِ وَسَادَتُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبُعِثَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلتِهِ لِيُطْلِقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالسَّينُ والتّاء فِي فَاسْتَكْبَرُوا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكَبُّرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ مِنْ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ احْتَقَرُوهُ وَأَحَالُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ اللهِ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ مُسْتَعْبَدِينَ اسْتَعْبَدَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَهَذَا وَجْهُ اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِعْراَضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالِاسْتِكْبَارِ كَمَا حَكَى اللهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧] . وتفريع فَاسْتَكْبَرُوا عَلَى جُمْلَةِ بَعَثْنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ إِعْرَاضٍ مِنْهُمْ وَإِنْكَارٍ فِي مُدَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ هُوَ اسْتِكْبَارٌ.
وَجُمْلَةُ: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ كَانَ الْإِجْرَامُ دَأْبَهُمْ وَخُلُقَهُمْ فَكَانَ اسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى مُوسَى مِنْ جُمْلَةِ إِجْرَامِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute